وقفة مع آيات من كتاب الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 55 - 58].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾ قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات، فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل عن غيرهم.
لما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم. قال ابن عباس: فاكهون: أي فرحون، وقال بعض المفسرين: أي في شغل مفكه للنفس ملذ لها من كل ما تهواه النفوس، وتلذه العيون، ويتمناه المتمنون، ومن ذلك نكاح زوجاتهم الأبكار من الحور العين في الجنة اللاتي قد جمعن حسن الوجوه والأبدان، وحسن الأخلاق"[1].
قوله تعالى: ﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾ أي في ظلال الأشجار على السرر المزينة باللباس المزخرف الفاخر الحسن، متكئون عليها اتكاءً يدل على كمال الراحة، والطمأنينة، واللذة.
قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴾ أي فاكهة كثيرة من جميع أنواع الثمار اللذيذة، من عنب وتين ورمان، وغيرها، ولهم ما يدعون: أي يطلبون فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه، كما قال تعالى: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الزخرف: 71].
قوله تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: في هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم، وأكده بقوله: ﴿ قَوْلًا ﴾، وإذا سلم عليهم الرب الرحيم حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه، وحصلت لهم التحية، التي لا تحية أعلى منها، ولا نعيم مثلها، فما ظنك بتحية ملك الملوك الرب العظيم الرؤوف الرحيم لأهل دار كرامته الذين أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدًا، فلولا أن الله تعالى قدر أن لا يموتوا، وألا تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور لحصل ذلك، فنرجو ربنا أن لا يحرمنا ذلك النعيم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم[2]. اهـ.
ومن فوائد الآيات الكريمات:
أولًا: إن في الجنة أزواجًا مطهرة يتلذذ الإنسان ويتمتع بهن مع الجلوس على الأرائك، والاتكاء عليها، وتقديم الفواكه من الولدان والخدم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ [البقرة: 25] قال مجاهد: "مطهرة من الحيض، والغائط، والبول، والنخام، والبزاق، والمني، والولد".
وقال تعالى: ﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴾ [الرحمن: 56]، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد - يعني سوطه - خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها"[3].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة "[4]، فقال رجل من اليهود: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر".
قال الشاعر:
ثانيًا: إن في الجنة أنهارًا وفواكه، ولكنها تختلف عما في الدنيا اختلافًا عظيمًا، لا يمكن أن يدركه الإنسان بحسه في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17] قال ابن عباس: "لا يشبِه شيء ممَّا فِي الجنَّة َ ما فِي الدنيا إلا الأسماء".
روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قبل بشر، فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17] "[5].
ثالثًا: إثبات كلام الرب تعالى لأهل الجنة، كما في قوله تعالى: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: 44]، قال ابن كثير: "الظاهر أن المراد - والله أعلم - تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام. أي: يوم يسلم عليهم، كما قال تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 58][6].
رابعًا: أن رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا في الجنة، ورضاه عنهم أفضل النعم التي يكرم الله بها أهل الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث صهيب الرومي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -، زاد في رواية: ثم تلا هذه الآية: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26][7].
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تبارك تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك!، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"[8].
خامسًا: أن أهل الجنة كلما طلبوا شيئًا وتمنوه أدركوه، روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب! فيقول: لك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة: رضيت رب! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول: رضيت رب! قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر"[9].
قال: ومصداقه في كتاب الله - عز وجل -:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تفسير ابن كثير (11/369)، وتفسير ابن سعدي (ص819).
[2] (ص ٨١٩-820).
[3] البخاري برقم (٢٧٩٦)، ومسلم برقم (١٨٨٠).
[4] (32/65) برقم (19314)، وقال محققوه: حديث صحيح.
[5] البخاري برقم (٣٢٤٤)، ومسلم برقم (٢٨٢٤).
[6] تفسير ابن كثير (11/184).
[7] برقم (181).
[8] البخاري برقم (٦٥٤٩)، ومسلم برقم (٢٨٢٩).
[9] برقم (١٨٩).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق