الأحد، 31 مايو 2015

نعمة الألم - من كتاب لا تحزن للشيخ /عائض القرني



لا تحزن 
للشيخ /عائض القرني
نعمة الألم 
الألمُ ليس مذموماً دائماً ، ولا مكروهاً أبداً ، فقدْ يكونُ خيراً للعبدِ أنْ يتأَلَّمَ .
إنَّ الدعاء الحارَّ يأتي مع الألمِ ، والتسبيحَ الصادقَ يصاحبُ الألَمَ ، وتألُّم الطالبِ زَمَنَ التحصيلِ وحمْله لأعباءِ الطلبِ يُثمرُ عالماً جَهْبَذاً ، لأنهُ احترق في البدايةِ فأشرق في النهايةِ. وتألُّم الشاعرِ ومعاناتُه لما يقولُ تُنتجُ أدباً مؤثراً خلاَّباً ، لأنه انقدحَ مع الألمِ من القلبِ والعصبِ والدمِ فهزَّ المشاعرَ وحرَّكَ الأفئدةَ . ومعاناة الكاتبِ تُخرجُ نِتاجاً حيّاً جذَّاباً يمورُ بالعِبرِ والصورِ والذكرياتِ .
إنَّ الطالبَ الذي عاشَ حياةَ الدَّعةِ والراحةِ ولم تلْذعْهُ الأَزَمَاتُ ، ولمْ تكْوِهِ المُلِمَّاتُ ، إنَّ هذا الطالبَ يبقى كسولاً مترهِّلاً فاتراً .
وإنَّ الشاعر الذي ما عرفَ الألمَ ولا ذاقَ المر ولا تجرَّع الغُصَصَ ، تبقى قصائدهُ رُكاماً من رخيصِ الحديثِ ، وكُتلاً من زبدِ القولِ ، لأنَّ قصائدَهُ خرجَتْ من لسانِهِ ولم تخرُجْ من وجدانِهِ ، وتلفَّظ بها فهمه ولم يعِشْها قلبُه وجوانِحُهُ .
وأسمى من هذهِ الأمثلةِ وأرفعُ : حياةُ المؤمنين الأوَّلين الذين عاشوا فجْرَ الرسالةِ ومَولِدَ الملَّةِ ، وبدايةَ البَعْثِ ، فإنهُم أعظمُ إيماناً ، وأبرُّ قلوباً ، وأصدقُ لهْجةً ، وأعْمقُ عِلمْاً ، لأنهم عاشوا الأَلَمَ والمعاناةَ : ألمَ الجوع والفَقْرِ والتشريدِ ، والأذى والطردِ والإبعادِ، وفراقَ المألوفاتِ ، وهَجْرَ المرغوباتِ ، وألمَ الجراحِ ، والقتلِ والتعذيبِ ، فكانوا بحقٍّ الصفوة الصافيةَ ، والثلَّةَ المُجْتَبَاةَ ، آياتٍ في الطهرِ ، وأعلاماً في النبل ، ورموزاً في التضحية ، 
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ  .
وفي عالم الدنيا أناسٌ قدَّموا أروعَ نتِاجَهُمْ ، لأنهم تألمَّوا ، فالمتنبي وعَكَتْه الحُمَّى فأنشدَ رائعته :
وزائرتي كأنَّ بها حياءَ 

فليسَ تزورُ إلاَّ في الظلامِ
والنابغةُ خوّفَهُ النعمانُ بنُ المنذرِ بالقتلِ ، فقدَّم للناس :
فإنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ 

إذا طلعتْ لم يبْدُ منهنَّ كَوكبُ
وكثيرٌ أولئك الذين أَثْرَوا الحياةَ ، لأنهم تألمَّوا .
إذنْ فلا تجزعْ من الألم ولا تَخَفَ من المعاناةِ ، فربما كانتْ قوةً لك ومتاعاً إلى حين ، فإنكَ إنْ تعشْ مشبوبَ الفؤادِ محروقَ الجَوَى ملذوعَ النفسِ ؛ أرقُّ وأصفى من أن تعيشَ باردَ المشاعرِ فاترَ الهِمَّةِ خامدَ النَّفْسِ ،
﴿ وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ 
ذكرتُ بهذا شاعراً عاش المعاناةَ والأسى وألمَ الفراقِ وهو يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ في قصيدةٍ بديعةِ الحُسْنِ ، ذائعةِ الشُّهرةِ بعيدةٍ عن التكلُّف والتزويق : إنه مالك بن الرّيب ، يَرثي نفسه :
أَلَمْ تَرَني بِعْتُ الضَّلاَلةَ بالهُدَى
وأصبحتُ في جيش ابنِ عفَّانَ غازيَا

فللهِ دَرِّي يومَ أُتْرَكُ طائعاً

بَنِيَّ بأعلى الرقمتيْن وماليا
فيا صاحِبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزلا

برابيةٍ إنِّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليومَ أوْ بَعْضَ ليلةٍ

ولا تُعجِلاني قد تبيَّن ما بيا 
وخُطاً بأطرافِ الأسنةِ مضجعي

ورُدَّا على عَيْنَيَّ فضلَ ردائيا
ولا تحسُداني بارَك اللهُ فيكما

مِن الأرضِ ذاتِ العَرْض أنْ تُوسِعَا ليا

إلى آخرِ ذاكَ الصوتِ المتهدِّجِ ، والعويلِ الثاكل ، والصرخةِ المفجوعةِ التي ثارتْ حمماً منْ قلبِ هذا الشاعرِ المفجوعِ بنفسهِ المصابِ في حياتهِ .
إن الوعظَ المحترقَ تَصِلُ كلماتُه إلى شِغافِ القلوبِ ، وتغوصُ في أعماقِ الرُّوحِ لأنه يعيشُ الألمَ والمعاناةَ
 ﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً   .
لا تعذلِ المشتاقَ في أشواقِه

حتى يكونَ حشاكَ في أحشائِه
لقد رأيتُ دواوينَ لشعراءَ ولكنها باردةً لا حياةَ فيها، ولا روح لأنهمْ قالوها بلا عَناء ، ونظموها في رخاء ، فجاءتْ قطعاً من الثلجِ وكتلاً من الطينِ .
ورأيتُ مصنَّفاتٍ في الوعظِ لا تهزُّ في السامعِ شعرةً ، ولا تحرِّكُ في المُنْصِتِ ذرَّةً ، لأنهم يقولونَها بلا حُرْقةٍ ولا لوعةٍ ، ولا ألمٍ ولا معاناةٍ، 
﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .
فإذا أردتَ أن تؤثِّر بكلامِك أو بشعْرِك ، فاحترقْ به أنت قَبْلُ ، وتأثَّرْ به وذقْه وتفاعلْ مَعَهُ ، وسوفَ ترى أنك تؤثِّر في الناس ،
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ  .





السبت، 30 مايو 2015

الخواص من مواقف التابعين و أتباعهم‎


الخواص من مواقف التابعين و أتباعهم
من مواقف التابعين و أتباعهم
الشيخ أحمد الزومان
إنَّ الحمدَ لله نَحْمَده، ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله مِن شرورِ أنفسنا
ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً
 وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }
 [النساء: 1].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
[الحشر: 18].

 أمَّا بَعْد:
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيْر الهُدَى هُدَى محمَّد، وشر الأمور
 مُحْدثاتُها، وكل بِدْعة ضلالَة. خيرُ هذه الأمَّة بعد الصحابة التابعون، ثم
أتباعُ التابعين بشهادة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكانوا نِعمَ القُدوة
 بعدَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – والصحابة.

وأثناء بحْثي في كُتُب التراجم مرَّتْ بي قصصٌ لهم تدلُّ على التُّقَى
والورع، والرغبة في الآخِرة والزهادة في الدُّنيا، وفي هذا القصص يظهر
إيثارُ مرضاةِ الله على حظوظ النفْس، وكذلك تَمُرُّ بي حِكمٌ وتوجيهات
 مِن أناس أنار الله بصائرَهم، وكنتُ أحفظ أهمَّ ما يمرُّ بي من المواقِف
المشرِقة، والحِكم النفيسة للتابعين، وغيرِهم مِن حملةِ الحديث النبوي،
فأحببتُ أن أشنِّف أسماعَ إخوتي بطرَف من خبَر القوم، ممَّا يناسب المقامَ؛
تذكيرًا ببعض مواقف هؤلاء القُدوة، وشحذًا للهِمم على العمل
 ومجاهدة النفس.

 أخي المقلد:
هذه وصيةٌ لسيِّدٍ مِن ساداتِ التابعين الحسن البصري يُبيِّن لك مِمَّن تأخذ
دِينَك ومَن تُقلِّد، فهو يوجهك للأَخْذ عن العلماء العاملين ممَّن عُرِف عنهم
العلم والعمل، وينهاك أن تأخذَ دِينَك ممَّن عُرِف عنه التفريط في جَنْب الله؛
قال الحسن: مَن قال قولاً حسنًا، وعمل عملاً حسنًا فخذوا عنه،
 ومَن قال قولاً حسنًا وعمِل عملاً سيِّئًا فلا تأخذوا عنه؛
 رواه ابن أبي شيبة (14/40) وإسناده صحيح.

 وصَدَق - رحمه الله - فمَن هو غاشٌّ لنفسه
 حَرِيٌّ بأن يكونَ غاشًّا لغيره.
وهذا قتادةُ السدوسي يُرشدك بحالِه أن تتلقَّى العلم ممَّن يعتمد على الكتاب
والسنَّة في استدلاله، فإذا أفتى ذَكَر الدليل مِن كتاب الله أو سُنَّة رسوله –
صلَّى الله عليه وسلَّم - أو أقوال الصحابة، لا بمجرَّد الرأي والهوى

 سُئِل  التابعي قتادةُ السدوسيُّ عن مسألة، فقال:
لا أدري، فقال له السائلُ: قل برأيك، قال: ما أفتيت برأيي منذ أربعين سَنَة؛
انظر: "تهذيب الكمال"

لأنَّهم يعلمون أنَّ المفتي مُخبِر عن الله، فتورَّعوا عن الفتوى، يتدافعونها
خشيةً مِن القول على الله بغيْر علم.

قال عبدالرحمن بن أبي لَيْلَى:
أدركتُ عشرين ومائة من أصحابِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلُّهم
مِن الأنصار إذا سُئِل أحدُهم عن شيء أحبَّ أن يكفيَه صاحبُه.

هؤلاء العلماءُ العاملون أكْسبهم عِلمُهم النافع التواضعَ، فلا يأنف الواحدُ
منهم أن يجلسَ وينتفع ممَّن هو دونه في العِلم والفضْل.

قال عبدُالملك بن عُمَير:
لقد رأيتُ عبدَالرحمن بن أبي ليلى في حلقة فيها نفَرٌ من أصحاب النبي
-        صلَّى الله عليه وسلَّم - يستمعون لحديثِه، ويُنصِتون له، فيهم
 البَراءُ بن عازِب؛
 انظر: "تهذيب الكمال" (4/463).

 أخي التاجر:
يا مَن تتعامل مع الناسِ بالبَيْع والشِّراء، غالِبْ نفْسَك، فلا تأخذ أكثرَ من
قيمة السِّلعة، ولا يُغرينك جهلُ المشتري بقِيَم السلعة، فتَزيد عليه في
الثمن، فهذا من الغَبْن الذي لا ترْضاه لنفسِك، فكيف ترْضاه
 لإخوانك المسلمين؟!

جاء رجلٌ من أهل الشام إلى سوقِ الخزَّازين،
 فقال ليونس بن عُبَيد - وكان مِن أهل البصرة -:
 عندَك مُطْرَف بأربعمائة؟ (المُطْرَف رداءٌ من خَزّ) فقال له: عندنا بمائتين،
فنادَى المنادي بالصلاة، فانطلق يونسُ إلى بني قُشَير ليصلِّي بهم، فجاء
وقد باع ابنُ أخته المُطْرَف من الشامي بأربعمائة، فقال يونس: ما هذه
الدراهم؟ قال: ذاك المُطْرَف بِعْناه مِن ذا الرجل، قال يونس: يا عَبدَ الله،
هذا المُطْرَف الذي عرضتُ عليك بمائتي درهم، فإنْ شئتَ فُخذْه وخُذ
مائتين، وإنْ شئتَ فدَعْه، قال: مَن أنت؟ قال: رجلٌ مِن المسلمين.

وجاءتِ امرأةٌ بمطْرَف خزٍّ إلى يونسَ بن عُبَيد،
 فألقتْه إليه تَعرِضه عليه في السوق، فنظَر إليه،
فقال لها: بكَمْ؟ قالت:
بستِّين درهمًا، فألقاه إلى جارٍ له، فقال: كيف تراه؟ قال بعشرين ومائة،
قال: أرى ذاك ثمنَه أو نحوًا من ثمنِه، قال: فقال لها: اذهبي فاستأمري
أهلَك في بيعه بخمس وعشرين ومائة، قالت: قد أَمروني أن أبيعَه
بستِّين، قال: ارْجعي إليهم فاستأمريهم.

فتحرَّى القوم وحَرَصوا على طيب الكَسْب وحِلِّه، لا كثرته؛ لأنَّهم يعلمون
أنَّ الأمر بالبركة لا بالكثرة، ولأنهم يعلمون أنَّهم سيتركون هذه الأموالَ
لوارثهم، وسيُسألون عنها يومَ القيامة، فاستعدُّوا لذلك، ومع ذلك يَتَّهِمون
أنفسَهم بالتقصير في البحْثِ عن المَكْسَب الحلال، فهذا التابعي الوَرِع
يونسُ بن عُبَيد يقول: ليس شيءٌ أعزَّ - أي أندر - مِن شيئين: درْهم
طيِّب، ورجل يعمل على سُنَّة
؛ انظر: "تهذيب الكمال" (8/213).

 الخطبة الثانية :
حُبِّبتْ إليهم الصلاة، وجَدُوا لذَّة مناجاة الله، فهم لا يَفتُرون عن الصلاة
متَى ما وجد الواحدُ منهم وقتَ فراغٍ وقَف بين يدي ربِّه يُناجيه ويسأله،
 لم ينشغلوا عن صلاتِهم بشيء؛ قال أحمدُ بن سِنان: ما رأيتُ عالِمًا أحسنَ
صلاةً من يزيد بن هارون؛ يقوم كأنَّه أسطوانة، يُصلِّي بيْن الظهر
والعصر، وبيْن المغرب والعشاء، لم يكن يفتُر مِن صلاة الليل والنهار،
وكان هو وهُشَيم معروفَيْن بطول صلاةِ الليل والنهار، وهشيم بن بشير،
ويَزيد بن هارون مِن أتباع التابعين؛
انظر: "تهذيب الكمال" (8/155).

بَلَغوا الغايةَ في الاستعداد للآخرة؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ الأَجَل قد يأتي فجأةً،
فاغتنموا وقتَ الصحة والفراغ؛

 قال عبدالرحمن بن مَهْدِيٍّ:
"لو قيل لحمَّاد بن سَلَمةَ: إنَّك تموت غدًا ما قَدَر أن يَزيد في العمل شيئًا"؛
انظر: "تهذيب الكمال" (2/280).

ومع اجتهادهم في العمل يَخْشَون ربَّهم؛ لأنهم هم العلماء حقًّا؛

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }
 [فاطر: 28]

خوْفُهم مِن الله ربَّما حَرَمهم لذيذَ الشهوات، فكان التابعيُّ
يحيى بن أبي كثير - وكان من العُبَّاد - إذا رأى جنازةً لم يتعشَّ تلك الليلة،
ولا قَدَر أحدٌ من أهله أن يُكلِّمه؛
 انظر: "ثقات ابن حبان" (7/591).

فهم يَتَّهِمون أنفسَهم بالتقصير مع حُسن ظنِّهم بالله؛

عاد حمَّادُ بنُ سلمة
سفيانَ الثوريَّ، فقال سفيان: يا أبا سلمة،
 أترى الله يَغفِرُ لمثلي؟ فقال  حماد: والله لو خُيِّرتُ بيْن محاسبة الله إيَّاي
وبيْن محاسبة أبويَّ لاخترتُ محاسبة الله على محاسبةِ أبويَّ؛
وذلك أنَّ الله أرحمُ بي مِن أبوي.

وسفيان وحماد من أتباع التابعين
؛ انظر: "تهذيب الكمال" (2/280).

حَرَص القومُ أن تكون أعمالُهم كلُّها لله، لم يُريدوا أن ينتفعوا بأعمالهم
التي يتقرَّبون بها لله ولو مِن غير قصْد في أمورِ الدنيا؛ ليكونَ الجزاء
موفورًا لهم يومَ القيامة.

رحَل رجُلٌ مِن تلاميذ حمَّاد بن سَلَمة إلى الصِّين،
 فلمَّا رجَع أهْدى إلى حمَّاد بن سلمة هديَّة، فقال له حماد:
إنِّي إنْ قَبِلتُها لم أحدِّثْك بحديث، وإن لم أقبلْها حدَّثتُك، قال:
 لا تقبلْها وحَدِّثْني
 انظر: "تهذيب الكمال" (2/280).

يَخشَوْن مِن الرِّياء على أنفُسِهم لعِلْمهم بأنَّه مُحبِط للأعمال، فكان التابعيُّ
أيوب السَّخْتِياني إذا رقَّ ودمعتْ عيناه حكَّ أنفَه، وقال:
 ما أشدَّ الزكامَ!
 انظر: "ثقات ابن حبان" (8/146).

حينما تبلُغهم فضيلةٌ مِن فضائل الأعمال يُبادِرون بالعمل بها، فعِلْمهم نافِع،
حيث أورثَهم العملَ؛
 فالتابعي سعيدُ بن جُبَير روَى عن ابن عبَّاس حديثَ السبعين ألف الذين
يَدْخُلون الجَنَّةَ بغير حساب، وهم الذين لا يَسْتَرقون ولا يتطيَّرون، ولا
يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكلون، فعمِل بهذا الحديث، فلم يَسْترق، قال سعيد
بن جبير: لُدِغتُ فأمرتْني أُمِّي أن أسترقي، فكرهتُ أن أعصيَها فناولتُ
الرُّقا بيدي التي لم تلدغْ؛ رواه المروزي في البر والصِّلة (60)

 إخوتي:
أختم هذا القصصَ بقِصَّة طريفة حصلتْ في اليمن، وذلك حينما دخَل
المُحدِّث مَعْمَر بن راشد صنعاءَ؛ ليُحدِّثَ بها، وليأخذ الحديثَ عن علماء
اليمن على عادةِ أهل الحديث في الرِّحْلة في طلب العلم ونشْره، كره أهلُ
اليمن أن يخرجَ معمرُ بن راشد، ورَغِبوا في بقائه في اليمن؛ لينتفعوا به،
فقال لهم رجلٌ من حُكمائهم: قيِّدوه فَزَوِّجوه، فبقي عندهم؛
 انظر: "تهذيب الكمال" (7/182).

 إخوتي:
النماذج التي مرَّتْ بنا من التابعين وأتباع التابعين هم بشَرٌ مثلنا، لدَيهم
 الرغبةُ في الدنيا، رُكِّبت فيهم الشهوات، تدعوهم نفوسُهم للكسل
والبطالة، لكنَّهم جاهدوا أنفسَهم فترةً، حتى استقامتْ على الخير،
 ورغبتْ به، أدركوا حقيقةَ أنَّ الدنيا زائلة والآخرة باقية، فلم يُؤثِروا
الزائلةَ على الباقية، جاهدوا أنفسَهم في البدايات، حتى استقامتْ على
 الصِّراط المستقيم، فلنحاولْ أنْ نَسلُكَ طريقَ القوم، ففيه السعادةُ
والفوز بسعادة الدنيا والآخِرة.

 أخي طالب العلم:
احرِصْ على تَقييد الفوائد التي تمرُّ بكَ أثناءَ قراءتك وبحثك، فربَّما تحتاج
هذه الفائدةَ، فإذا لم تُقيِّدْها فربَّما احتجتَ وقتًا طويلاً؛ لتظفرَ
بها مرَّةً أخرى.