الثلاثاء، 15 يوليو 2014

شبابية القرآن وفتوته


شبابية القرآن وفتوته  

إنَّ القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته و فتوته ، حتى كأنه ينـزل في كل عصر نضراً فتياً .
نعم ! إنَّ القرآن الكريم لأنه خطاب أزلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم أنْ تكون له شبابية دائمة كهذه . فلقد ظهر شاباً و هو كذلك كما كان . حتى إنَّه ينظر إلى كل عصر من العصور المختلفة في الأفكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر و وفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً إليها الأنظار .
إنَّ آثار البشر وقوانينه تشيب و تهرم مثله ، و تتغير و تُبدَّل . إلاّ أنَّ أحكام القرآن و قوانينه لها من الثبات و الرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور .
نعم، إنَّ هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ أُذنيه عن سماع القرآن أكثر من أي عصر مضى ، وأهل الكتاب منهم خاصة ، أحوج ما يكونون إلى إرشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ(يا أهل الكتاب) .. (يا أهل الكتاب) حتى كأنَّ ذلك الخطاب موجّه إلى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ (أهل الكتاب) يتضمن معنى : " أهل الثقافة الحديثة " أيضاً !
فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في أجواء الآفاق و يملأ الأرض و السبع الطباق بكل شدة و قوة وبكل نضارة وشباب فيقول :
(يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ..) ! (آل عمران 64)
فمثلاً : إنَّ الأفراد و الجماعات مع أنَّهم قد عجزوا عن معارضة القرآن ، إلاّ أنَّ المدنية الحاضرة التي هي حصيلة أفكار بني البشر و ربما الجن أيضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له و أخذت تعارض إعجازه بأساليبها الساحرة . فلأجل إثبات إعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة ( قل لئن اجتمعت الإنس و الجن ..) لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الأسس و الدساتير التي أتت بها المدنية الحاضرة أمام أسس القرآن الكريم .
فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها : إنَّ ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي " القوة " و هي تستهدف " المنفعة " في كل شئ . و تتخذ " الصراع " دستوراً للحياة . و تلتزم بـ" العنصرية و القومية السلبية " رابطةً للجماعات . و غايتها هي " لهو عابث " لإشباع رغبات الأهواء و ميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس و إثارة الهوى . و من المعلوم أنَّ شأن " القوة " هو " التجاوز" . و شأن " المنفعة " هو" التزاحم "  إذ هي لا تفي بحاجات الجميع و تلبية رغباتهم . و شأن " الصراع " هو " التصادم " و شأن " العنصرية " هو" التجاوز " حيث تكبر بابتلاع  غيرها .
فهذه الدساتير والأسس التي تستند إليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة - مع محاسنها - عن أن تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية ، بينما ألقت البقية إلى شقاء و تعاسة وقلق .
أما حكمة القرآن فهي تقبل  " الحق " نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من "القوة".. و تجعل "  رضي الله ونيل الفضائل " هو الغاية و الهدف ، بدلاً من " المنفعة ".. و تتخذ دستور " التعاون " أساساً في الحياة ، بدلاً من دستور " الصراع " .. و تلتزم رابطة " الدين " و الصنف و الوطن لربط فئات الجماعات ، بدلاً من " العنصرية و القومية السلبية".. وتجعل غاياتها "الحدّ من تجاوز النفس الأمارة و دفع الروح إلى معالي الأمور و تطمين مشاعرها السامية لسوق الإنسان نحو الكمال و المثل العليا لجعل الإنسان إنساناً حقاً " .
إنَّ شأن " الحق " هو " الاتفاق " .. و شأن " الفضيلة " هو" التساند ".. و شأن " التعاون " هو إغاثة كل للآخر" . و شأن " الدين " هو " الأخوة والتكاتف " . و شأن " إلجام النفس و كبح جماحها و إطلاق الروح و حثها نحو الكمال " هو " سعادة الدارين " .
و هكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم ، مع ما أخذت من محاسنَ من الأديان السابقة و لا سيما من القرآن الكريم .
و سنبين لكم أربعة مسائل فحسب من بين آلاف المسائل :

المسألة الأولى :

إنَّ دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنَّها آتية من الأزل فهي باقية و ماضية إلى الأبد . لا تهرم أبداً ولا يصيبها الموت ، كما تهرم القوانين المدنية و تموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان .
فمثلاً : إنَّ المدنية بكل جمعياتها الخيرية ، و أنظمتها الصارمة و نظمها الجبارة ، و مؤسساتها التربوية الأخلاقية لم تستطع أن تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت أمامهما وهي في قوله تعالى :
(و آتوا الزكاة ) (البقرة: 43) و ( .. و أحلّ الله البيع و حرّم الربا ) (البقرة: 275) ..
سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة :
إنَّ أس أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنَّما هو كلمة واحدة .. كما أنَّ منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضاً . كما اُثبت ذلك في (إشارات الإعجاز) .
الكلمة الأولى : ( إن شبعتُ ، فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع ) .
الكلمة الثانية : ( اكتسبْ أنتَ ، لآكل أنا ، واتعبْ أنت لأستريح أنا ) .
نعم ، إنَّه لا يمكن العيش بسلام و وئام في مجتمع لا بالمحافظة على التوازن القائم بين الخواص و العوام ، أي بين الأغنياء و الفقراء ، و أساس هذا التوازن هو رحمة الخواص و شفقتهم على العوام ، و إطاعة العوام واحترامهم للخواص .
فالآن ، إنَّ الكلمة الأولى قد ساقت الخواص إلى الظلم و الفساد ، و دفعت الكلمة الثانية العوام إلى الحقد والحسد و الصراع . فسُلبت البشرية الراحة و الأمان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث أوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين و أصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد .
فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية و مؤسساتها الأخلاقية و بكل وسائل نظامها و انضباطها الصارم عجزت عن أن تصلح بين تلك الطبقتين من البشر كما عجزت عن أن تضمد جرحَيْ الحياة البشرية الغائرَين .
أما القرآن الكريم فإنَّه يقلع الكلمة الأولى من جذورها ، و يداويها بوجوب الزكاة . و يقلع الكلمة الثانية من أساسها و يداويها بحرمة الربا .
نعم ، إنَّ الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا : (الدخول ممنوع) . و تأمر البشرية : (أوصدوا أبواب الربا لتنسد أمامكم أبواب الحروب) . و تحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها .


الأساس الثاني :


إنَّ المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات ، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة و منافياً لمصلحة البشر .
نعم ، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم أن يكون الأمر معكوساً ، بينما هو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات و بتصديق النباتات المتزاوجة :
أنَّ الحكمة من الزواج و الغاية منه إنَّما هي التكاثر و إنجاب النسل . أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهي أجرة جزئية تمنحها الرحمة الإلهية لتأدية تلك المهمة . فما دام الزواج للتكاثر و إنجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً و حقيقةً ، فلا شك أنَّ المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة ، و لا تكون خصبة إلاّ نصف أيام الشهر، و تدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها ، لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الإخصاب في أغلب الأوقات حتى وهو ابن مائة سنة . لذا تضطر المدنية إلى فتح أماكن العهر و الفحش !

الأساس الثالث :

إنَّ المدنية التي لا تتحاكم إلى المنطق العقلي ، تنتقد الآية الكريمة : (للذَكَرِ مثلُ حظ الأُنثيين) (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (أي نصف ما يأخذه الذكر) .
و من البديهي أنَّ اغلب الأحكام في الحياة الاجتماعية إنَّما تسنّ حسب الأكثرية من الناس ، فغالبية النساء يجدن أزواجاً يعيلونهن و يحمونهن ، بينما الكثير من الرجال مضطرون إلى إعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن .
فإذا ما أخذت الأُنثى الثلث من أبيها (أي نصف ما أخذه الزوج من أبيه) فإنَّ زوجها سيسد حاجتها. بينما إذا اخذ الرجل حظين من أبيه فإنَّه سينفق قسطاً منه على زوجته ، و بذلك تحصل المساواة ، ويكون الرجل مساوياً لأخته . و هكذا تقتضي العدالة القرآنية . [1]

الأساس الرابع :

إنَّ القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الأصنام ، يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الأصنام . أما المدنية الحاضرة فإنَّها تعدّ الصور من مزاياها و فضائلها و تحاول أن تعارض القرآن . و الحال إنَّ الصور أياً كانت ، ظلية أو غيرها ، فهي : إما ظلم متحجر ، أو رياء متجسد ، أو هوى متجسم ! حيث تهيج الأهواء وتدفع الإنسان إلى الظلم و الرياء و الهوى .
ثم إنَّ القرآن يأمر النساء أن يحتجبن بحجاب الحياء ، رحمةً بهن و صيانة لحرمتهن و كرامتهن و لكي لا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت أقدام الذل والمهانة، و لكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها[2] .
أما المدنية فإنَّها قد أخرجت النساء من أوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية أن يجنَّ جنونها . علماً أنَّ الحياة العائلية إنَّما تدوم بالمحبة و الاحترام المتبادل بين الزوج و الزوجة . بينما التكشف و التبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة و الاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فإنَّه يفسد الأخلاق و يهدمها كلياً ، و يؤدي إلى انحطاط الروح و تردّيها ،
و يمكن فهم هذا بالآتي :
كما أنَّ النظر بدافع الهوى و بشهوة إلى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة و ترجوها يهدم الأخلاق و يحطها ، كذلك النظر بشهوة إلى صور نساء ميتات أو إلى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن -  يزعزع مشاعر الإنسان ويعبث بها ويهدمها .
و هكذا بمثل هذه المسائل الأربع فإنَّ كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا ، كما تحقق سعادته الأبدية في الآخرة .
فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة .
و أيضاً ، فكما أنَّ المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب أمام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الإنسان الاجتماعية، فيظهر إفلاسها - من زاوية الحقيقة - إزاء إعجاز القرآن المعنوي ، كذلك فإنَّ فلسفة أوربا وحكمة البشر - وهي المدنية  - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس و العشرين السابقة ، ظهرت عاجزة و ظهرت حكمة القرآن معجزة ، و إن شئت فراجع " الكلمة الثانية عشرة و الثالثة عشرة " لتلمس عجز حكمة الفلسفة و إفلاسها وإعجاز حكمة القرآن وغناها .
و أيضاً ، فكما أنَّ المدنية الحاضرة غُلبت أمام إعجاز حكمة القرآن العلمي و العملي ، كذلك آداب المدنية و بلاغتها فهي مغلوبة أمام الأدب القرآني و بلاغته . و النسبة بينهما أشبه ما يكون ببكاء يتيم فَقَد أبوَيه بكاءً ملؤه الحزن القاتم واليأس المرير، إلى إنشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق و الأمل .. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل ، إلى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الأنفس والأموال وبلوغ النصر. لأنَّ : الأدب والبلاغة من حيث تأثير الأسلوب ، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان :
إما أنَّه حزن منبعث من فقد الأحبة ، أي من عدم وجود الأحبة و الأخلاء ، و هو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة و المشوبة بالغفلة و المعتقدة بالطبيعة ، و إما أنَّه ناشئ من فراق الأحبة ، بمعنى أنَّ الأحبة موجودون ، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق . فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير .


أما الفرح والسرور فهو أيضاً قسمان :

الأول : يدفع النفس إلى شهواتها ، هذا هو شأن آداب المدنية من أدب مسرحي و سينمائي و روائي .
أما الثاني : فهو فرح لطيف بريء نزيه ، يكبح جماح النفس و يلجمها و يحث الروح و القلب و العقل والسر على المعالي و على موطنهم الأصلي ، على مقرهم الأبدي ، على أحبتهم الأخرويين . و هذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر و يشوّقه للجنّة والسعادة الأبدية و على رؤية جمال الله تعالى .
و لقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لا يكلفون أنفسهم دقة النظر : إنَّ المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة ( قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً ) ظنوها صورة محالة و مبالغة بلاغية ! حاشَ للّه ! بل إنَّها بلاغة هي عين الحقيقة ، وصورة ممكنة و واقعة وليست محالة قط .

 فأحد وجوه تلك الصورة هو أنَّه :
لو اجتمع أجمل ما يقوله الإنس و الجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه ، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله . لذا لم يظهر مثيله .
و الوجه الآخر : إنَّ المدنية وحكمة الفلسفة و الآداب الأجنبية التي هي نتائج أفكار الجن و الإنس وحتى الشياطين و حصيلة أعمالهم ، هي في دركات العجز أمام أحكام القرآن و حكمته و بلاغته . كما قد بيّنا أمثلة  منها .
   بديع الزمان سعيد النورسي ، رحمه الله .

المصدر : 
كليات رسائل النور، المجلد الأول (الكلمات) . تأليف : بديع الزمان سعيد النورسي، رحمه الله .
ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي . الطبعة الأولى ، استانبول 1992 نشر: دار سوزلر للنشر . 
[1]  هذه فقرة من اللائحة المرفوعة إلى محكمة التمييز، ألقيت أمام المحكمة ، فأسكتتها وأصبحت حاشية لهذا المقام : (وأنا أقول لمحكمة وزارة العدل الموقرة !
إنَّ إدانة من يفسّر أقدس دستور إلهي وهو الحق بعينه ، و يحتكم إليه ثلاث مائة و خمسون مليوناً من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية ، خلال ألف و ثلاث مائة وخمسين عاماً . هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدّق به ثلاث مائة و خمسون ألف مفسر ، و اقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف و ثلاث مائة و خمسين سنة .. أقول : إن إدانة هذا المفسر قرار ظالم لابد أن ترفضه العدالة ، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض ، و لابد أن تردّ ذلك الحكم الصادر بحقه و تنقضه) . المؤلف .
[2]  إن اللمعة الرابعة و العشرين تثبت بقطعية تامة : أن الحجاب أمر فطري جداً للنساء بينما رفع الحجاب ينافي فطرتهن . المؤلف .
منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق