الاثنين، 3 فبراير 2014

10 موضوعات مهمة عن الحبيب صلى الله عليه وسلم




سنة المصطفى هي التطبيق العملي لأحكام القرآن وتشريعاته؛ وهي المعين الذي لا ينضب للقدوة العملية للدعاة في كيفية تحركهم بدعوتهم بين الناس، مؤثرين فيهم بفعلهم قبل قولهم، قال تعالى:
[لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً]



10 موضوعات مهمة عن الحبيب صلى الله عليه وسلم على موقع قصة الإسلام:



أهمية دراسة السيرة النبوية

د. راغب السرجاني

http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/11727_image002.jpg
تمثّل السيرة النبوية العطرة أحد الكنوز العظيمة التي يجب الاستفادة منها، وتزداد أهمية دراسة السيرة إذا كان في حساباتنا أنها لا تتناول رجلاً عاديًّا، بل إنها دراسة لتاريخ أعظم مخلوق وُجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم وإلى يوم القيامة.
إن السيرة النبوية تعتبر من أجلِّ العلوم وأفضلها بالنسبة للمسلم؛ فهي تدرس سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpg، فقد وصفه رب العزة بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. فإذا كانت دراسة السيرة مهمة في زمن من الأزمان فهي في زماننا أهم؛ لأن واقع الأمة الآن متأخر في كل المجالات؛ تأخر عسكري واقتصادي واجتماعي وأخلاقي.
ولا ريب أن الأمل معقود في الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgلإعادة البناء، بَيْدَ أن النهوض يحتاج إلى أمرين مهمين: يقين بضرورة بناء الأمة من جديد، ودور عملي لكل منا؛ فاليقين أن نوقن في كلام رسول الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpg، فقد بشَّر الصحابة في غزوة الخندق بفتوح الشام وفارس واليمن وغيرها، وألاَّ نعتمد اعتمادًا كُليًّا على الحسابات المادية، رغم أهميتها، فالأحزاب قد اعتمدوا على الجانب المادي لكنهم لم ينجحوا، وأن يكون لنا دور لإعادة إعمار الكون، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
عشنا طويلاً في ظل مجموعة من الأيديولوجيات والأفكار المختلفة التي تحكم المجتمع والدولة، وكلها باءت بالفشل مثل الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، ندور حول هذه الأفكار متناسين سيرة نبينا وأصوليتنا الدينية التي أدارت المجتمعات الإسلامية القديمة بخلافاتها ودولها، ومع هذا فإننا لا ننادي باستقصاء كل وقعة وفعلة وحدث في السيرة؛ فهذا ضرب من المستحيل لكننا ننادي بدراسة الأحداث العظيمة والجليلة في هذه السيرة؛ فهي مما يتكرر يومًا بعد يوم، ندرس غزوة أُحد وبدر والخندق؛ لأن واقعنا قد وجد حدثًا مشابهًا وهو حرب أكتوبر 1973م، وهو -لا شك- من الأحداث التي يتم تحليلها منذ وقعت وحتى وقتنا الراهن.
مقدار السيرة في حياة المسلمين
نحن هنا لا ندرس سيرة رجل عادي يمشي على الأرض، أو عظيم من عظماء التاريخ وما أكثرهم، ولكننا ندرس سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgمنذ خلق آدم http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u2_20.jpgإلى يوم القيامة، أعظم رجل على الإطلاق.
فعادةً ما يتفوق الناس في مجال ويتأخرون في مجال آخر، لكن هذا الرجل تفوق في كل المجالات مطلقًا؛ تفوق في عبادته، في معاملاته، في شجاعته، في كرمه، في حلمه، في زهده، في تواضعه، في حكمته، في ذكائه، في كل شيء. فنحن ندرس سيرة الإنسان الذي خاطبه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
فأي خُلُقٍ هذا الذي وصفه الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgالعظيم العليم I بأنه خلق عظيم!
هذا الرجل أقسم الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgبه فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. فهو رجل أقسم الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgبحياته.
ندرس سيرة الرجل الذي لن يحاسب الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgالخلائق يوم القيامة إلا عندما يشفع هذا الرجل للحساب، كل نبي لن يشفع حتى لأتباعه إلا بعد أن يشفع هذا الرجل.
ندرس سيرة الرجل الذي لن ندخل الجنة إلا خلفه، لن نُرْوى يوم القيامة إلا من يده ومن حوضه ومن نهره.
إن عرفنا سيرته ونهجه واتبعناه كانت النجاة في الدنيا والآخرة، وإن جهلنا طريقته أو خالفناه قيل لنا: سحقًا سحقًا.
نحن ندرس سيرة رسول الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgالماحي الذي محا الله به الكفر، أول من يُبعث من الخلائق يوم القيامة، حامل لواء الحمد يوم القيامة صاحب المقام المحمود والحوض المورود يوم القيامة.
ندرس سيرة الرجل الذي فُتحت له أبواب السماء ليخترقها بجسده إلى ما بعدها، لما صعد http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgمع جبريل في رحلة المعراج إلى السماء وطرق الباب، أجاب الملك: مَنْ؟ قال: جبريل. قال: فمن معك؟ قال: محمد. قال: أوَأُذِن له؟ قال: نعم. ففتح باب السماء ليدخل النبي http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgإلى مكان لم يدخله بشر من قبل ذلك وهو حي.
الرجل الذي وصل إلى مكان لم يصل إليه بشر ولا ملك، حتى الملائكة لم تصل إلى المكان الذي وصل إليه محمد http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpg.
الرجل الذي شاهد الجنة والنار بعينه لا بعقله فقط.
نحن لا نقارن عظمة رسول الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgبعظمة بوذا وكونفشيوس وهتلر ولينين وستالين كما فعل -مثلاً- صاحب كتاب "الخالدون مائة وأعظمهم محمد http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpg"، ويفرح الكثيرون بهذ الكتاب ظنًّا منهم أنهم أنصفوه، لكنهم ما أنصفوه إذ قارنوه بهؤلاء، نحن نقارن رسول الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgبنوح http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u2_20.jpgوبإبراهيم http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u2_20.jpgوبموسى وعيسى عليهما السلام، وبكل أنبياء الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgعليهم أجمعين الصلاة والتسليم.
نقارنه أيضًا بالملائكة أجمعين؛ بملك الأرزاق، بملك الجبال، بملك البحار، بحملة العرش، بل بجبريل http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u2_20.jpg، بل هو أفضلهم جميعًا http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpg.
لما وصل الرسول http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgإلى سدرة المنتهى ومعه جبريل http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u2_20.jpgلم يستطع روحُ القدسِ التقدم خطوة واحدة، وقال له: لو تقدمت خطوة واحدة لاحترقت. أما محمد http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpgفقد مكنّه الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgمن ذلك وتقدم ليقف عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى للقاء الله http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/u1_20.jpgوكلمه بدون حجاب.
هذا الرجل له مقام عظيم خالد، وعلى قدر هذه العظمة يجب أن يكون اهتمامنا بسيرته، بل وبكل دقيقة مرت في حياته الشريفة http://islamstory.com/sites/all/themes/islamstory/images/r_20.jpg.

الرسول قدوتنا


http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/12/06/22/test4.jpg
لا شَكَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم إنسان في تاريخ البشرية، وأنه تام الخَلْق والخُلُق؛ وكيف لا وقد قال فيه ربه عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهذا الفضل له صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
الرسول قدوتنا
ولقد شهد لرسول الله صلى الله وسلم الجميع -مسلمون وغير مسلمين- قديمًا وحديثًا بهذه الشهادة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وأَثْنَوْا على صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وما من إنسان يُمكن أن يُوضع في مقارنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو السابق في كل الأمور في التقوى والشجاعة، والجود والرحمة، والحلم والتسامح.. وكافة صنوف الأخلاق الحميدة.
ومن أجل هذا فإن الله عز وجل جعله أسوة وقدوة للناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فهو في الجود كان صلى الله عليه وسلم «أَجْوَدَ النَّاسِ» . وفي الإقدام والشجاعة قدوة؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لَمَّا حَضَرَ الْبَأْسُ يَوْمَ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى المُشْرِكِينَ مِنْهُ» . وفي الوقت نفسه كان قدوة في الحِلم؛ فهو «يَسْبِقُ حُلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا» . وفي الصدق والأمانة هو الصادق الأمين.
وفي سائر الأخلاق يصفه أصحابه رضي الله عنهم بأنه صلى الله عليه وسلم «أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا، وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا، وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً ، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ : لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ».
الاقتداء بالرسول
ولأنه صلى الله عليه وسلم هو أسوتنا وقدوتنا في كل أمر؛ فإنه لم يترك أمرًا من أمور الحياة كبُر أم صغُر إلَّا وأوضح لنا أصول التعامل الصحيح معه؛ لكي تستقيم خطواتنا على سبيل الشرع الإسلامي، ولا تحيد عنه فتزلّ ونهلك؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ، إِلا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَمَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ إِلا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ...» .
ولِتَحَقُّق الفائدة من الأسوة والقدوة فقد أمرنا الله عز وجل أن نأخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي ثلاثًا وعشرين سنة، حدثت فيها جميع أجناس الأعمال التي يمكن أن تقع للإنسان والمجتمع والدولة؛ منها ثلاث عشرة في مكة حيث الكفر مسيطر على الأوضاع، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سرًّا وجهرًا، والصحابة يستخفون بإيمانهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يُقابل أصنافًا متنوِّعين من البشر؛ منهم مَنْ يرقُّ قلبه لكلام الله، ومنهم مَنْ قلبه كالحجارة، ومنهم المتردِّدُ والخائف والمنتفع الباحث عن السلطة.
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء والأطفال، وواجه ردود أفعال قريش من التكذيب إلى السخرية والاستهزاء إلى التشويش على دعوته، ثم العداء السافر بالاضطهاد والإيذاء له صلى الله عليه وسلم والتعذيب لأصحابه رضي الله عنهم.
وفي المدينة قام الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء دولة مختلفة الأعراق والأجناس؛ انطلاقًا من مجتمع حافل بالصراعات والمنافقين.
صاغ الرسول صلى الله عليه وسلم دستورًا للدولة، وتعامل مع الدول والقبائل، وراسل الملوك، وخاض الحروب بتوكُّل على الله عز وجل، وتخطيط مُحْكَم وإعداد شامل للقوَّة.
معاهدات الرسول
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته يحبُّ الحروب أو يشتهيها، وإنما كان يجعلها آخر الدواء؛ ومن ثمَّ حفلت حياته صلى الله عليه وسلم بكل ما يمكن أن يمنع الحرب أو يُخَفِّف وتيرتها، وكان من هذه الأمور المعاهدات والاتفاقيات.
لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في فترة رسالته كلَّ الطوائف التي يُمكن للمسلمين أن يُعاهدوها مستقبلاً؛ فقد عاهد اليهود والنصارى والمشركين؛ حتى يُعَلِّمَنَا كيف تكون المعاهدات، وما أصولها؛ مثل: كيف نصوغ المعاهدات للحفاظ على مصالح الإسلام والمسلمين، وما التنازلات التي يُمكن تقديمها لإتمام المعاهدة، وما الذي لا يُمكن التنازل عنه، ووجوب الوفاء بالمعاهدات، ومتى يمكن اعتبار المعاهدة ملغاة. كلُّ هذا علَّمه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة.
وسنجد أنه ليس هناك في مجال المعاهدات السياسية في التاريخ والحاضر أرقى من معاهداته صلى الله عليه وسلم ، ولا أكثر عدلاً وإنصافًا ووفاءً، بل وبِرًّا مع المعاهِدِين.
من هنا وجب علينا أن ندرس معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم ليَتَبَيَّن لنا وجه جديد من أنصع وجوه السيرة النبوية -وكلها ناصع- ولنقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمور حياتنا كما أمرنا الله تعالى.

الحوار النبوي


http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/12/04/14/%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87.jpg
الحوار بين البشر هو الوسيلة الأساسية للتواصل، قبل أن يكون وسيلة تعليمية، أو غيرها؛ فالإنسان كائن مجتمعي لا يعيش إلاَّ في جماعة، ولكي يستطيع الحياة مع هذه الجماعة، ولكي يُعَبِّرَ عن احتياجاته الأساسية لا بُدَّ له من الحوار مع مَنْ حوله؛ فالطفل يحتاج إلى أن يطلب من والديه ما يُريد وهكذا.
الحوار النبوي
إنَّ المتأمِّل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بإنصاف لَيُدركُ أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقًّا وصدقًا؛ لأنه لا يُمكن لإنسان أن يجمع في حياته وسلوكياته خلاصة الفضائل الإنسانية، وقمَّة الوسائل البشرية في التعامل مع الناس إلاَّ أن يكون نبيًّا معصومًا يُوحَى إليه.
إنَّ كلَّ متخصِّص وخبير في مجاله يستطيع أن ينهل من معين حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالداعية المصلح سيجد بُغيته، والسياسي سيتعلَّم دروسًا بليغة، والقائد العسكري سينال مطلبه، والطبيب النفسي سيتعلَّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا؟ وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21].
وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل مَنِ استخدم الحوار على الإطلاق؛ فهو صلى الله عليه وسلم يعلم وظيفة الحوار، وفوائده، وأساليبه، وآدابه، وفنونه، وقد مارسها صلى الله عليه وسلم على أحسن ما يكون طوال حياته مع المسلم والكافر، مع الرجل والمرأة، مع الشيخ والطفل على حدٍّ سواء.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدم الحوار كوسيلة للتواصل والتراحم مع الآخرين..
الحوار والتواصل مع الآخرين
أمَّا التواصل فهو قيمة كبرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالرسول -كلُّ رسول- مهمَّته الدعوة والتبليغ، ولن يستطيع أن يُؤَدِّيَ تلك المهمَّة إلاَّ إذا كان يُحَدِّث الناس ويُحَدِّثُونه، ويُحاورهم ويُحاورونه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}
[المائدة: 67].
إنَّ الرسول لا يصلح أن يكون انطوائيًّا منعزلاً لا يتحدَّث إلى الناس ولا يُحاورهم، فضلاً عن أن يكون شديدًا غليظ الطبع؛ يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
فمهمَّة تبليغ الرسالة على أكمل وجهٍ، ومسئوليَّة تأليف قلوب البشر مرتبطة باعتماد الحوار وسيلة للتواصل معهم.
والحوار كذلك وسيلة للتراحم.
نعم، أقول: وسيلة للتراحم!!
فهو صلى الله عليه وسلم كان رحيمًا ودودًا، وكانت رحمته هي العامل المشترك الذي يتَّضح من خلال كل حواراته.
لقد حاور النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين والكافرين، ومع كلٍّ كانت الرحمة والرفق واللين تشعُّ في الحوار، لم يكنِ النبي صلى الله عليه وسلم يغلظ على أحدٍ، أو يُسيء إلى إنسان مهما صَغُرت سِنُّه، أو قلَّ شأنه بين الناس.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحاور ليُلاطِف، أو ليُعَلِّم ويُرَبِّيَ، أو ليدعو إلى الإسلام، أو ليُفاوض، أو ليتعايش مع مَنْ حوله، وكلُّ هذه السبل تفتقر إلى الرحمة، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
ومع ذلك كله يسعى كثير من المسلمين للبحث عن فنون الحوار والتواصل مع الآخرين في الكتب الغربيَّة، وعند كُتَّاب ومؤلِّفين مهما بلغت مهارتهم فلن يبلغوا عُشر معشار ما كان لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القدرات والمهارات في فنِّ الحوار والتواصل.
إن الحوار كان أحد معالم منهج حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن حدثًا نادرًا في مواقف عارضة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ديكتاتورًا يأمر وينهر ولا يطيق سماع رأي آخر ككثير من الناس في بيوتهم، أو الحُكَّام في ملكهم، بل كان صلى الله عليه وسلم كثير الحوار، محسنًا الاستماع للآخرين.
سمات الحوار النبوي مع أصحابة
كان الحوار النبوي متميزًا في أمرين مهمَّيْنِ؛ هما:
1- جمال الأهداف.
2- جمال الوسائل.
جمال أهداف الحوار النبوي
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بالحوار لكي يقطع الوقت أو ليملأ الفراغ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يستغلُّ الحوار ليلجَّ في الخصومة أو من أجل الظهور والغلبة، وإنما كان حواره صلى الله عليه وسلم لأهداف رائعة، وكان كثيرًا ما يُحَقِّق أكثر من هدف في الحوار الواحد، أو يُحَقِّق كلَّ تلك الأهداف مجتمعة، ومن هذه الأهداف:
التعارف
فقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم بالتعارف مع غيره عن طريق الحوار، فالتعارف هدف من الأهداف الكبرى في حياة المسلم؛ حتى إن الله عز وجل ذكره كهدف من أهداف جَعْله سبحانه الناس شعوبًا وقبائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
[الحجرات: 13].
تلطيف العلاقات مع الصاحب:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستخدم الحوار ليُلَطِّفَ الأجواء بينه وبين أصحابه؛ فقد كانوا رضي الله عنهم يحملون له توقيرًا كبيرًا قد يجعلهم متحفِّظين في التعامل معه صلى الله عليه وسلم، بينما كان هو صلى الله عليه وسلم يُريد أن يتلطَّف لهم ويتباسط معهم ليطمئن على أحوالهم؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنَّا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، فلـمَّا قَفَلْنَا كنَّا قريبًا من المدينة، تَعَجَّلْتُ على بعيرٍ لي قَطُوفٍ ، فَلَحِقَنِي راكبٌ من خلفي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَة كانت معه، فسار بعيري كأحسن ما أَنْتَ رَاءٍ من الإِبِلِ، فَالْتَفَتُّ فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسول الله، إنِّي حديث عهدٍ بِعُرْسٍ. قال: «أَتَزَوَّجْتَ؟» قلتُ: نعم. قال: «أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟» قال: قلتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ». قال: فَلَـمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فقال: «أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً –أي عشاء- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ» .
فهكذا يتدخَّل الرسول صلى الله عليه وسلم في أخصِّ شئون الصحابة الحياتية عن طريق الحوار؛ ليطمئن عليهم ويُوَجِّههم، وقد جاءت زيادة في رواية أخرى لمسلم عن جابر : قلت: يا رسول الله، إنَّ لي أخواتٍ فخشيتُ أن تَدْخُلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ. قال: «فَذَاكَ إِذًا؛ إِنَّ المَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». [1].
التعليم:
وأهم مَنْ طبَّق الحوار للتعليم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان أحسن وأفضل مُعَلِّم لأُمَّته، بل للبشرية جميعًا؛ ومن ثَمَّ فمواقف حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بغرض تعليمهم تندُّ عن الحصر؛ ومن هذه المواقف ما يلي:
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم مع أصحابه، فقال لهم -فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟» قالوا: المفلس فينا مَنْ لا درهم له ولا متاع. فقال: «إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» .
ففي هذا الحديث استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الحوار في تصحيح مفهوم لدى الصحابة، وهو معنى «الإفلاس» الذي يحمله العامَّة على الإفلاس المادي، وهذا ما أجاب به الصحابة على استفهام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: «المفلس فينا مَنْ لا درهم له ولا متاع». وهنا يُصَوِّب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك المفهوم، ويربطه بيوم القيامة، والحسابِ الذي يجري فيه، وبيَّن لهم أن الإفلاس الحقيقي هو أن يأتي العبد بحسنات كثيرة، ولكن يأتي بمظالم كثيرة قد ارتكبها في حقِّ العباد، فيُعطى المظلومون من حسناته حتى تفنى، فيصير مفلسًا على الحقيقة، ثم يُطرَح عليه من سيئاتهم، ثم يُلقى في جهنم محسورًا.
وبهذا الأسلوب الفذِّ غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه كراهية الإساءة إلى الناس؛ حتى لا تضيع حسناتهم، ويصيروا من المفلسين بمقاييس الآخرة.
إزالة شبهات:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُعَلِّم الناس الصواب بالحوار؛ يُزيل عنهم به ما يعتريهم من الشبهات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناسٌ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلَّم به . قال: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟». قالوا: نعم. قال: «ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ».
فهنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يُهَدِّئ من روع الصحابة الذين يأتيهم الشيطان بوساوسه حول الله عز وجل، ويُبَيِّن لهم أن هذا بسبب اتصافهم بالإيمان الخالص.
جمال الوسائل في الحوار النبوي
وكما وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجًا وقدوة في جمال أهدافه من الحوار؛ فإننا نجده كذلك في وسائله في الحوار؛ ونجمل هذه الوسائل في النقاط التالية:
1- أدب التعبير وانتقاء الألفاظ.
2-الاستماع إلى الطرف الآخر.
3- الابتسامة أثناء الحوار.
4-قبول الرأي الآخر وعدم الدخول في الجدل الطويل.
5- الصبر على أذى الطرف الثاني.
6-سعة الصدر وعدم إظهار الملل من كثرة سؤال الطرف الثاني.
7-تقدير الحالة النفسية للطرف الآخر.
8- الحرص على مساعدة الطرف الآخر ورفع همَّته.
9- عدم إحراج الطرف الثاني، وخاصة أمام الناس.
10-التوقُّف عند عدم المعرفة، وعدم الفتوى بغير علم.
11- تحديث الناس بما يفهمون ويستوعبون.
12-الاقتصار في الإجابة على قدر السؤال، والزيادة بحسب رغبة السائل، وأحيانًا بزيادة يسيرة كهدية.
13-عدم السخرية أو الاستهزاء بالأخطاء الساذجة.
14-المدح دون كذب، والثناء دون مبالغة.
15-اللوم السريع العابر في حالة ظهور أخطاء خفيفة عند الطرف الثاني.
16- القوَّة في الحق.
17-التوجيه إلى الأهم، وعدم الخوض فيما لا يعني.
18-التشويق لإذهاب الملل ولفت الانتباه.
19-الوضوح وعدم التردُّد.
20- الصبر على جفاء الآخرين، أو عدم تقديرهم المناسب له.
21-إظهار الحب للطرف الآخر والحرص عليه.

شمائل النبي العظيم


شمائل النبي العظيم
شمائل النبي العظيم
أي قلم يحيط وصفه ببعض نواحي تلك العظمة النبوية؟ وأية صحيفة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر وأحاطت بكل عصر وكتب لها الخلود أبد الدهر؟ وأي مقال يكشف لك عن أسرارها وإن كتب بحروف من النور وكان مداده أشعة الشمس؟ على أنك تعجب حين ترى هذه العظمة التي فرعت الأوصاف وتعالت عن متناول الألسنة والأقلام والعقول والأفهام ماثلة في كل قلب مستقرة في كل نفس يستشعرها القريب والبعيد ويعرف بها العدو والصديق وتهتف بها أعواد المنابر ، وتهتز لها ذوائب المنائر.
ألم تَرَ أن الله خلّد ذكرَه إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ
وشقَّ له من اسمه ليُحلَّه فذو العرش محمود وهذا محمدُ
وإن العظيم ليكون عظيما بإحدى ثلاث:
بمواهب تميزه عن غيره وتعلو به عمن سواه وتجعله بين الناس صنفًا ممتازًا مستقلاً بنفسه عاليًا برأسه يجل عن المساماة ويعظم على المسابقة، أو بعمل عظيم يصدر عنه ويعرف به ويعجز الناس عن الإتيان بمثاله أو النسج على منواله، أو فائدة يسديها إلى الجماعة وينفع بها الناس.
وبقدر ما يكون العظيم متمكنًا من وصفه مفيدًا في إنتاجه بقدر ما تكون درجته من العظمة، ومنزلته من التقدير، ولهذا تفاوتت منازل العظماء، واختلفت مراتبهم، فمنهم سابق بلغ ذؤابات العظمة، ومقتصد بلغ من حدودها ما يرفعه إلى مصاف العظماء، ومقصر كان نصيبه منها أن نسب إليها ولصق بها أو لصقت به.
والناس ألف منهمُ بواحد وواحد كالألف إنْ أمرٌ عَنَى
كذلك يكون العظيم عظيمًا بواحدة من هذه الثلاث، وبجزء من الواحدة يصل إليه، فكيف إذا جمعها جميعًا، ووصل في كل منها إلى التي ليس بعدها غاية، وجاوز في علوه الحدود التي وضعها الناس للعظمة والعظماء، وذلك ما اختص به الله تبارك وتعالى نبيه المجتبى، وحبيبه المصطفى سيدنا محمد.
رتب تسقط الأمانيُّ حسرى دونها ما وراءهن وراءُ
فأمَّا عن المواهب التي ميزه الله بها عن غيره فحدث عن الفيض ولا حرج؛ فلقد كان من شرف النسب وكرم الأصل في صميم قريش ولبابها وذروة الشرف وسنامه،لم تزل في ضمائر الكون تختار له الأمهات والآباء، فهو من خير أسرة في أنبل قبيلة لأكرم شعب وأزكى جنس، ولا غرو فهو خيار من خيار من خيار.
وهو من حيث الجمال الخَلْقي في أسمى معانيه وأعلى رتبة، قوي البنية تام الخلقة أجمل الناس طلعة وأوفرهم هيبة، وأوضاهم وجها، وأعذبهم ابتسامة وأحلاهم منطقًا، إذا تبسم كأنما يفتر عن حَب الغمام وإذا ضحك رؤي النور يخرج من بين ثناياه.
وإذا نظرت إلى أسرَّة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
وإن ذلك لمعنى عرضي من معاني الكمال الذاتي الذي أودعه الله نفس نبيه محمد، ولع الناس بالتمدُّح به والإغراق في ذكره وهم لو التفتوا إلى سواه من معاني الكمال المحمدي لوجدوا في ذلك البحر الذي لا ينضب معينه، والمصباح الذي لا يخبو نوره، وإنما ذكرناه في معرض حديثنا عن العظمة المحمدية لأنه كمال انفرد به المصطفي ولم يشاركه فيه أحد سواه.
وهو من حيث الكمال الخُلُقي بالذروة التي لا تُنال والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسَدّهم رأيًا، وأصحهم فكرة، وحسبك أنه ساس هذه القبائل الجافية والنفوس القوية العاتية ولم يستخدم في ذلك الإغراء بالمال ولا الإرهاب بالقوة؛ فلقد كان في قُلٍّ من الثروة وضعف من العدد والعُدة ولكنه العزم الماضي والرأي الثاقب والتأييد الإلهي والكمال المحمدي.
أسخى القوم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا، أجود بالخير من الريح المرسلة، يعطي عطاء من لا يخشي الفقر، يبيت على الطوى وقد وهب المئين وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا، وينادي صاحبه: "أنفق بلالاً ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا".
أرحب الناس صدرًا وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، تواتيه المقدرة ويمسك بغرة النصر فلا يلقى منه خصمه إلا نُبلا وكرمًا وسماحة وشممًا، ينادي أسراه في كرم وإباء: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
أعظم الناس تواضعًا، يخالط الفقير والمسكين، ويجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة ولا برسم من رسوم الظهور، ويقول لهم في ذلك ما معناه: إن الله يكره أن يمتاز الشخص عن أصحابه.
ألين الناس عريكة، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء وكأنما يفقأ في وجهه حَب الرمان من شدة الغضب.
أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادة، يتلقى الناس بثبات وصبر، تمر به الأبطال كلمى هزيمة، وهو ضاحك السن باسم الثغر وضّاح الجبين ينادي بأعلى صوته:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب.
ويداعب إصبعه وقد مسها ألم الجراح في سبيل الحق:
هل أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التي يجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قوة الإرادة بالمنزلة التي لا ينثني معها عن واجب ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة، ويضرب المثل العملي في ذلك لأصحابه فيقول لهم: "ما كان لنبي إذا لبس لأْمة حربه أن يرجع".
أعفُّ الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مفصلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، يقول لأصحابه ما معناه: "لم أبعث فاحشًا ولا متفحشًا ولا لعّانًا ولا صخّابًا بالأسواق إنما بعثت هاديًا ورحمة".
أعدلهم في الحكومة وأعظمهم إنصافًا في الخصومة، يقِيد من نفسه ويقتص لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس إليه، ويقسم بالذي نفسه بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها لله وأشدها صلابة وقيامًا بحقه وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة مع تناسق غريب في أداء الواجبات واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يؤتي كل ذي حق حقه، فلربِّه حقه ولصاحبه حقه ولزوجه حقها ولدعوته حقها، ولكل واجب من واجبات الإنسانية ما يتطلبه من أداء وإتقان.
أزهد الناس في المادة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه ولا يعيب طعامًا قط، وإذا لم يجد ما يأكل قال إني صائم، وينام على الحصير والأُدم المحشوّ بالليف، ويقول في المنعمين المترفين: "إن لهم الدنيا ولنا الآخرة".
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة قد تزوجت من قبله وقضت زهرة شبابها مع غيره ولم يتزوج معها أحدًا وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكرًا غير عائشة التي أعرس بها وسنها تسع سنين يسرب إليها الولائد يلعبن بالدمي وعرائس القطن والنسيج.
أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، يغذيهم بحنانه ويعطف على الكل بجنانه ويقول: "في كل ذات كبد رطبة أجر"، ويعد الرفق بالحيوان قربة إلى الله، يشكر عليها عبده ويكافئ فيها خلقه، ويعتبر القسوة جريمة حتى على الحيوان الأعجم، ويحذر أصحابه فيقول: "إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
وهو مع رجاحة عقله ونضوج فكره وقوة إرادته أرقُّ الناس عاطفة وأرقُّهم شعورًا وأرقهم إحساسًا، يجد لزوجه من الحنان والوفاء ما يجعله يقول: "حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة"، ويجد لابنه من الشفقة والحب ما يجعله يقول عند فقده ما معناه: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنّا بعدك يا إبراهيم لمحزونون".
ويجد من الحنين لوطنه والميل لبلده التي نشأ فيها ونما بها ما يجعله تغرورق عيناه بالدمع ويقول لأصيل الغفاري وقد أخذ يصف مكة بعد الهجرة: "لا تشوقنا يا أصيل ودع القلوب تقَرّ".
ذلك قبس من نور النبوة وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر وإن في القول وفي المقام تفصيلا.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانًا قائلا فقلِ
وإنك لتلقى العظيم ليعظم في قومه ويسود في عشيرته بخصلة واحدة من هذه الخصال فكيف بمن حِيزت له بحذافيرها، وبلغت في كل منها نهايتها.
وإنك لتجد لكل عظيم هفوة ولكل سيد كبوة ولكل نابِهٍ نقيصة أخذت عليه وعرفت عنه كأنه الكلف يشين وجه البدر، أو الغمام يحجب نور الشمس، سل التاريخ ينبئك أنك لست بواجد شيئا من هذا أمام عظمة النبي، فقد عُصم من النقائص وعلا عن الهفوات وحل مقامه عن أن تلصق به نَبْوَة.
خُلقتَ مبرَّأً من كل عيبٍ كأنك قد خُلقتَ كما تشاءُ
ذلك من حيث المواهب التي اختص بها الله نبيه العظيم وحبا بها رسوله الكريم، وأما من حيث عظمة العمل الذي قام به سيدنا محمد فبربك قل لي أي عمل أعظم من الرسالة العظمى والنبوة الكبرى والدعوة العامة والإصلاح الشامل لكل الأمم بل للجن والإنس في كل ناحية من نواحي الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأي أثر أخلد من القرآن الكريم والتشريع القويم الذي تركه النبي للإنسانية من بعده، نهتدي بهديه، ونسير على ضوئه، ونصلح بتعاليمه، ونلجأ إليه حين ييأس الناس مما في أيديهم ويفلسون من نظمهم وقواعدهم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
لو لم يكن للنبي من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هدية السماء إلى الأرض واتصال هذا القرآن الكريم إلى العالم لكان فضلا لا يستقل العالم بشكره ولا تقوم الإنسانية بكفاله ولا يوفي الناس حامله بعض جزائه.
وناهيك بكتاب ضمن للناس إن اتبعوه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة وعلاج المشكلات ودواء المعضلات، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأنت إذا أمعنت النظر في كتاب الله تبارك وتعالى رأيته القانون الشامل والتشريع الكامل الذي ضمن للفرد حقوقه وحريته، وحدَّد له واجباته العامة والخاصة لله ولنفسه ولأسرته ولوطنه وللعالم كله، وضمن للأسرة سعادتها وهناءتها ببنائها على أفضل الأسس وأدق القواعد النفسية الاجتماعية، ووصف أحسن العلاج لما يطرأ على الأسر من عوامل الانحلال والفناء، مع بيان أفضل الوسائل في توثيق الروابط بين أفراد الأسرة الواحدة على أساس تقدير الجميل والتعاون على الخير ووضع للأمة بعد ذلك أحكم النظم التي تبين صلة الحاكم بالمحكوم وتجعل الأمر شورى والناس سواسية، لا يتفاضلون إلا بأعمالهم، ولا يتفاوتون إلا بحقهم، ثم تفي على ذلك ببيان الصلة بين الأمم بعضها ببعض، ووجوب تعاون بني الإنسان علي خير البشرية العام، والرقي بمستواها إلى نهاية ما قدر لها من الكمال الممكن.
كل ذلك عرض له القرآن الكريم في لفظ بليغ وإيجاز محكم وجاءت السنة المطهرة ففصلت مجمَلَه، وحددت مطلقه، واستقصت جزئياته، فكان تشريع الإسلام وهو ثمرة البادية وليد الصحراء وابن الفيافي القاحلة أدقَّ تشريع وأكمله وأوفاه وأصلحه، مع سموه عن النقد وتجافيه عن الخطأ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فأي عمل أعظم من هذا؟ وأي أثر أخلد منه؟ وإن العالم كله إذا أجمع على عظمة أفلاطون لفلسفته وجمهوريته، وعلى فضل أرسطو وتبريزه في أخلاقه وقوانينه، وعلى تقدير نابليون لعزيمته وتشريعه، مع تعرض كل هؤلاء للهفوات والنقد المر، ومع أن معظم نظرياتهم خيالية لا تثبت أمام التنفيذ ولا تتفق مع الواقعيات، ومع أنهم جميعا كان لهم من دراساتهم وتقلبهم في معاهد العلم ومدارس الثقافة ما يجعل ذلك ليس غريبا منهم ولا بعيدا عليهم.
إذا كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله - ولا محيص لهم عن ذلك - أن يجعل عظمة محمد في الخلق جميعا فوق كل عظمة، وفضله فوق كل فضل، وتقديره أكبر من كل تقدير، وقداسته أسمى من كل قداسة، ولو لم يكن له من مزيدات نبوته وأدلة رسالته إلا سيرته المطهرة وتشريعه الخالد لكانا كافيين لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
وأما من حيث ما أسداه إلى الإنسانية من فوائد، وحبا به العالم من المنافع فحسبك أن تعلم أنه صلى الله عليه وسلم المنقذ للبشرية مما ارتطمت به من أهوال وصروف في عصره الذي بعث فيه، وأن العالم كله لن يجد العلاج لمشاكله والحل لكل معضلاته إلا بما وضع الإسلام من دواء ووصف من علاج، ولو أن الناس كشفوا عن أعينهم غشاوة التعصب وطهروا قلوبهم من أدران الوهم لعلموا أن كل مشكلات اليوم بل كل مشكلات العالم حلها الإسلام بأيسر الحلول، ووصف لها أنفع الأدوية، وليس بين العالم وبين الراحة والهناءة إلا أن يعمه تشريع الإسلام القويم، وسيخلص الناس من تجاربهم إنْ بعيدًا وإنْْ قريبًا إلى هذه النتيجة ولتعلمن نبأه بعد حين.
وبعـدُ، فإن كانت العظمة بالتبريز في أساليب السياسة فإن نبينا ذلك السياسي الذي لم يخطئه التوفيق في موقف من مواقفه، مع الصدق والمناصحة والبعد عن المخادعة والنفاق.
ولئن كانت المهارة في قيادة الجيوش وإحراز أعظم النصر بأقل التضحيات فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم في كل غزوة من غزواته أو سرية من سرايا جيشه المظفر.
ولئن كانت بقوة التأثير فإن تأثير النبي في أصحابه لم يَرَ التاريخ مثله في وقت من أوقاته، أو صفحة من صفحاته، وما رأت الدنيا جماعة من الجماعات سارت على هدي نبيها، أو اتبعت سنة قائدها كتلك الجماعة المؤمنة المخلصة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنك لتقرأ كتاب العظمة فترى عظمة محمد أوضح سطوره، وأروع معانيه، فليعتز المسلمون بذلك وليكن لهم في نبيهم العظيم أسوة حسنة.

في مدرسة السيرة


http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/13/03/10/13671.jpg
ليس أحب إلى نفسي من أن أخلو إلى كتاب في السيرة أقضي في صحبته ساعة هانئة، أطوف خلالها في تلك الأجواء السمحة وأعيش في ظلال النبي الإنسان، وأجني من مدرسة حياته أعظم الفوائد، ذلك أن كُتب السيرة مدرسة حية تزود قارئها بما لا يجده في مدرسة أخرى، وسأحاول في هذا الحديث أن أكثف الفوائد التي يجنبها الإسلاميون من دراسة السيرة.
(1) الفائدة الثقافية
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية صحيحة، وهي أصح ترجمة حفظها التاريخ لنبي من الأنبياء، فقد ضاعت خلال الزمن سير الأنبياء والمصلحين، وأصبحنا نجد اليوم بين أتباعهم من ينكر وجودهم التاريخي من أساسه، فهناك بين المسيحيين الأميركيين من ينكر وجود المسيح، ويدّعي أن ما يتناقله الناس عن حياته أساطير انحدرت إليهم من بقايا وثنية الروم واليونان!
وقد استمرت المعركة الجدلية أشهرًا في واحدة من مجلات شيكاغو حول حقيقة المسيح التاريخي، وقد بذل رينان أقصى جهوده ليقف على قصة حياة كاملة لعيسى عليه السلام، ومع ذلك لا تزال دقائق حياته سرًا مكنونًا في ضمير الزمن، وعيسى عليه السلام هو النبي الذي يعيش في ضمائر الملايين من أتباعه المثقفين المتعلمين في الدنيا، فكيف بسِيَر المصلحين الآخرين من أمثال زرادشت وبوذا وكونفوشيوس!
إن كثيرًا من النقاد اليوم يشكون في شخصياتهم ووجودهم التاريخي، ونحن لا نستطيع إلى اليوم أن نحدد العصر الذي عاش فيه رزادشت صاحب المجوسية، وإلى اليوم لا يستطيع مؤرخ أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخ حياة بوذا أو حياة كونفوشيوس، وكل ما يعرف الناسُ عن هؤلاء أوهامًا تنهار وتتهافت عند أول تحقيق!
أما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن سيرته وصلت إلينا، وهي تفصل دقائق حياته، وتقص علينا نبأ كل صغيرة وكبيرة منها، وقد دهش المستشرقون لذلك فقال أحدهم -رينان- بصراحة: "حياة مؤسس الإسلام معروفة عندنا معرفة حياة المصلحين في السادس". والحق أننا نعرف اليوم معرفة كاملة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ويشرب ويلبس وينام، كيف كان يعيش في بيته، ومع الناس، وفي المسجد والسوق، وفي السلم والحرب، بل نحن نستطيع أن نتمثل صورته الشخصية صلى الله عليه وسلم تمثلاً حيًا من خلال الأوصاف الدقيقة التي حملتها إلينا كتب الحديث عنه.
فلننظر إلى هذه الصورة التي تكاد تغني عن الرسم الفوتوغرافي:
"كان صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الربعة، وأما لونه فقد كان أزهر، ولم يكن بالآدم الأسمر، ولا بالأمهق الشديد البياض، وأما ما كان ظاهرًا للشمس والرياح كالوجه والرقبة والآذان فقد كان مشربًا بالحمرة، وأما شعره فقد كان رجْلاً ليس بالسبط ولا بالجعد القطط، و كان يضرب إلى منكبيه، وقيل أنه كان يبلغ شحمة أذنيه، وربما فرق شعر رأسه فرقتين: فرقة عن يمينه وفرقة عن يساره، وربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ، ولن شعره أسود، ولم يبلغ شيب رأسه ولحيته عشرين شيبة"(1).
وكان صلى الله عليه وسلم حسن الوجه كضوء البدر، أدعج العينين، في بياضهما عروق حمر رقاق، أزج الحاجبين سابغهما، أهدب الأشفار، وكان مستوي الأنف، حسن الثغر واسع الفم مفلج الأسنان، وكان من أحسن الناس شفتين وألطفهم ختم فم، وكان سهل الخدين صلبهما، وليس بالطويل الوجه ولا المكلثم المدور، كث اللحية، يعفي لحيته ويأخذ من شاربه، وكان أحسن عباد الله عنقًا، وكان عريض الصدر، عظيم المنكبين أشعرهما، ضخم الكراديس، واسع الظهر، ما بين كتفيه خاتم النبوة، وهو مما يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس، وكان عبل الذراعين والعضدين، وطويل الزندين، رحب الراحتين، طويل الأصابع، عبل ما تحت الإزار من الفخذين والساق، وكان معتدل الخلق في السمن، بَدُنَ في آخر زمانه(2).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أشبه الناس بآدم، وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي خلقًا وخُلقًا»(3).
فمحمد صلى الله عليه وسلم إذًا شخصية تاريخية لا سبيل إلى أدنى الريب في وجودها، ذلك أن سيرته لدينا معروفة منذ نعومة أظفاره إلى أن اختاره الله لجواره، ولا سيما تاريخ الفترة التي أدى فيها رسالة ربه، وإن في دراستنا لهذه السيرة الفائقة ثقافة تاريخية، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي التاريخ الحق الصحيح لفترة الإسلام، وهي الصورة الواقعية للانقلاب المحمدي الذي حقق لأمتنا العربية أول وحدة قومية في تاريخهم، والذي جمع المسلمين على هدف واحد، وقاد ركبهم المظفر لإنقاذ البشرية التائهة ودفعها نحو النور والحرية والحق.
(2) الفائدة الأخلاقية
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية، وهي سيرة الرجل العظيم الكامل الذي لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها وهي سيرة الرجل العظيم الكامل الذي لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضل طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام! فمن حقنا إذًا أن نتخذ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا لسلوكنا في حياتنا، و{لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وحياة محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة: في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان الخ.. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل الحي لنا، نحن المسلمين، مثل حي من لحم ودم، نقتدي بخطواته ونهتدي بهديه، ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حيًّا لها، فسيرة محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، ولهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشئونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئًا من حلقات الحياة، وهي أيضًا سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن"(4).
لم يُتَح لغير محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء أصحاب الرسالات، أو لغيره من المصلحين أصحاب الدعوات، أن يعلّموا أتباعهم تعليمًا عمليًا: فالمسيح عليه السلام لا يستطيع أن يرسم بسيرته لأتباعه مثال الزوج الكامل لأنه لم يتزوح قط، وهو لا يستطيع أن يرسم بسيرته لأتباعه المثل الأعلى الكامل للحاكم الإداري العالم لأنه من يحكم قط، بل كان مغلوبًا على أمره، ظلمه الرومان وضيقوا عليه وطاردوه، ولقد كان لعيسى أم، والإنجيل يخبرنا أن له أخًا وأختًا، ولكننا لا نجد في سيرة عيسى اليوم شيئًا عن معاملته أهله وذويه وأسرته لتكون هذه المعاملة أسوة لأتباعه.
وموسى عليه السلام لا نعرف من سيرته إلا صورًا من قتاله وقيادته في الحرب وشجاعته فيها، كما ترسمها الأسفار الخمسة من التوراة، أما النواحي الأخرى فلا نتبيّنها بوضوح -كما يقول بحق الأستاذ سليمان الندوي- كالحقوق في أمور الدنيا والفرائض والواجبات، فكيف يستطيع إذًا أتباعه أن يلتمسوا لسلوكهم في كل ذلك أسوة من سيرته.
وكذلك كيف يستطيع أتباع بوذا -وهم يعدون ربع سكان المعمورة- أن يتخذوا من سيرته قدوة عملية لهم، والتاريخ لم يحفظ من سيرته غير عدة أقاصيص وحكايات لا ترسم غير ظلال باهتة من حياته.
أما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان حريصًا على أن يربي أتباعه تربية عملية حين كان يأخذ نفسه بالتطبيق العملي المثالي لكل ما يدعو إليه، حتى إذا لم يبدأ مرة بنفسه أولاً يجد من المسلمين ترددًا في تنفيذ ما يدعو إليه، وكذلك تردد المسلمون في نحر الهدْي والحلق والتقصير يوم صلح الحديبية، على الرغم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، حتى لفتت أم سلمة رضي الله عنها نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لم يبدأ بنفسه أولاً، فهو قد أمرهم بالنحر والحلق ولكن لم ينحر بعد، ولم يحلق أو يقصر، ليكون القدوة العملية لأصحابه، كما هو شأنه في كل أمر من أمور حياته، فأسرع عليه السلام ينحر ويحلق، وأسرع المسلمون يأتمون به دون تردد.
ولهذا نجد بين المذاهب الأربعة مذهبًا –هو مذهب الإمام مالك- يرجّح السُّنّة العملية، وهي ما تسمى في أصول مذهبه بعمل أهل المدينة -أي ما توارثه هؤلاء عن آبائهم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم-، يرجحها على السنة المروية عن طريق الآحاد، حسب اجتهاده، وهذه السنة العملية هي التي صححت لأبي يوسف رأيه في الوقف، ذلك أن أبا يوسف كان أولاً على رأي شيخه أبي حنيفة في عدم القول بجواز الوقف، فلما جاء أبو يوسف إلى المدينة ولقي فيها الإمامَ مالكًا، بيّن له هذا أن السنة العملية جرت على إقرار الوقف، وأخبره أن في المدينة عددًا من ورثة صحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أوقفوا لذراريهم أوقافًا معروفة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره، ثم استدعى الإمام مالك بعضًا منهم فشهدوا أمام أبي يوسف بتوارثهم أوقافًا لهم، أبًا عن جد، فتراجع عند ذلك أبو يوسف رحمه الله وقال: "لو كان صاحبي –يعني شيخه أبا حنيفة- حيًا لرجع عن قوله".
إن في دراسة السيرة إذًا فائدة أخلاقية سلوكية، فحياة النبي صلى الله عليه وسلم ترسم المنهاج السلوكي للمسلمين، ولهم {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
(3) الفائدة الدينية
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مصدر من مصادر الشريعة الإسلامية، ذلك أن جانبًا كبيرًا من مقومات شريعتنا وشعائرها توضحه حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتنيره أعماله، وتقدم له التفسير العملي. فدراسة السيرة إذًا تنمي إيماننا تزيدنًا بصرًا بحقائق ديننا القويم، وتعمّق فهمنا لكتاب الله وتعيننا على تفسيره. والقرآن الكريم في معنى من معانيه كتاب تعبدي، نتلوا آياته في صلواتنا، ونحن مأمورون بقراءته وتدبره، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تيسر لنا السبيل إلى إحسان تدبره وفهمه، كما تشرح لنا أحكام الفرائض وتطبيقاتها
فالسّنّة العملية هي التي تفصل أحكام الزكاة وتشرحها، وتفصل كيفية الوضوء وأعمال الصلاة وتبين مناسك الحج، والنبي عليه السلام هو الذي يقول حين توضأ فغسل أعضاءه ثلاثًا ثلاثًا: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي»(5). ويقول أيضًا: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»(6)، ويقول في الحج: "خذوا عني مناسككم"(7).
والقرآن الكريم عندما أجملَ أكثر الأحكام، واكتفى ببيان الخطوط الرئيسية منها، ترك لسيرة النبي تفصيل ما أجمل وبيان ما لم يتعرض له، إما بتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي أو بأقواله أو بإقراره لأفعال بعض صحابته، فقد ورد في حديث عمرو بن العاص الله عنه قال: كنت في غزوة ذات السلاسل، فأصابتني جنابة في ليلة بادرة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فتيممت وصليتُ بأصحابي الصبح، فلما رجعنا إلى المدينة ذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو! صليتَ بأصحابك وأنت جنب! فقلت: يا رسول الله، ذكرتُ قولَ الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29]، فتيممتُ وصليت. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا(8).
وهكذا أثبتت السنة العملية حكمًا تعبديًا لم يتعرض له القرآن الكريم وهو جواز تيمم الجنب مع وجود الماء إن خشي الهلاك. فالسيرة العملية إذًا هي التبيين لأحكام القرآن، وصدق الله العظيم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
هذه هي الفوائد العظيمة التي يجنيها المسلم في مدرسة السيرة، فهي تقدم له ثقافة تاريخية موثوقة، وترسم له مُثُلاً أخلاقية سلوكية عملية، وتزيد وعيه الديني، وتبصّره بحقائق الإسلام وكتبه العظيم.

ولكم في رسول الله أسوة حسنة


http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/13/10/43/asoa-7sna.jpg
إن المسلم صورةٌ لدِينه وأخلاقِ القرآن التي تمشي على الأرض، عليه أن يكون نِعْمَ الرسول ونِعْمَ المُمْتَثِل للإسلام الذي ارتضاه لنا ربُّنا طريقًا ومنهاجًا في هذه الحياة الدنيا.
إن رسولنا وقدوتَنا -صلى الله عليه وسلم- قد ترك فينا ما إن تمسَّكنا بهما لن نضلَّ أبدًا: "القرآن، والسُّنة النبوية"، فلنَنْهلْ من مَعِينِهما ما استطعنا، ونأخُذْ ما يشفي ظمأنا وحاجتنا؛ لنحيا حياة روحية وأخلاقية مستقيمة قويمة.
للإسلام جاذبية عظيمة تجذب كل باحث وشغوف بحقيقة وجوده في الحياة، والمسلم هو مرآته، به يَتعرَّف الآخر حقيقةَ ديننا فيزداد شوقًا لأن يستظلَّ في رحابه، بذلك يهدأ روعه، ويهنأ باله، بمعرفة رسالة وجوده في الدنيا.
يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ويقول أيضًا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، إذًا فالمسلم هيِّن ليِّن، يعامل غيرَه بالرحمة والرأفة، ويجيب عن تساؤلاتهم بكل تفهُّم، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
إن الدروس المحمدية المُمْتَثِلَةَ أتمَّ الامتثال لِعظِات القرآن الكريم سبيلٌ لنا إن أردنا فعلاً تغيير صورة نمطية أُلصقت بالإسلام اليوم، ووُصِم بها المسلمون في جميع أصقاع الأرض.
لقد اقتَدَى الصحابة الكرام برسولنا -صلى الله عليه وسلم- ففتحوا الأمصار، ونشروا الإسلام؛ لكن كيف نشروه؟ وكيف بلَغُوا به مشارق الأرض ومغاربها؟
قد نشروه بأن وَلَجوا قلوب الناس أولاً بأخلاقهم وأمانتهم وصِدقِهم، وبأن بيَّنوا بأن هذا الدين نابعٌ من مشكاة واحدةٍ للرسالات السابقة، ولنا في إسلام النَّجاشي -ملك الحبشة- خيرُ دليلٍ، عندما سمع قول الحق -تبارك وتعالى على أفواه الصحابة، فأذعنت نفسه، وذرفت عيناه.
يريد الله -سبحانه وتعالى- أن نُسلِم له حق الإسلام، وتمام ذلك بأن نفقَهَ حقيقة ومعنى أن نأتمر بأوامره وننتهي بنواهيه، يقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، فمن يدَّعي حبه للإسلام ولم يأخذ بسنة خير الأنام نبراسًا ومنهاجًا، فحُجتُه داحضة، ومنهجُه مردود عليه، فكمال دينك وغاية إيمانك بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يكون الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قدوتَك ومَثَلَك الأعلى، فيوافق مظهرَك مَخبرُك، وتكون سببًا في الدعوة من دون أن تتفوَّه بكلمة.
إن ما نراه اليوم وللأسف الشديد يفجع القلوب ويتمعَّر له الوجه، حال أمة الإسلام لا يسرُّ على الإطلاق، تطاحن وتناحر وقلة ارتداع، هذا الحال ينبئ بكارثة لا سمح الله إن لم نُفِقْ من غفلتِنا، وننهج صراطنا المستقيم بعد أن ضللنا، لقد ضيَّعنا اللُّب والجوهر، فأصبحنا اليوم أدنى الأمم تكاتفًا وتآلفًا وتعاضدًا، فالتشدُّق بقِيَم الإسلام دون النزول عند مُسْتَحقَّاتها، ذلك عين الحمقِ والغباء قطعًا، الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
التأسِّي بالسُّنة قولاً وفعلاً في جميع مناحي حياتنا يُقرِّبنا حقًّا من الإسلام الحنيف، الطريق والمنهاج واضح لا لبس فيه "قرآن وسنَّة"، واللهِ إنها لنعمة عظيمة قد امتنَّ الله بها علينا بهذا المنهج الرباني البَيِّن، يُقنع العقول المتبصِّرة، ويأسر القلوب الحيَّة، طاعتُك لله ولرسوله الكريم سببٌ في فلاحك في الحياة الدنيا وفوزك بالآخرة، وما ذلك على الله بعزيز، فربُّنا يؤتي كلَّ ذي حق حقَّه، ولا يظلم النَّاس نقيرًا.
المصدر: الألوكة.

علاج الداء من معين سيرة سيد الأنبياء


علاج الداء من معين سيرة سيد الأنبياء
علاج الداء من معين سيرة سيد الأنبياء
البشرية الحائرة في جميع الأزمان في حاجة إلى ربّان، وقائد يهديها سواء السبيل، وحادٍ يقودها إلى السعادة السرمدية في حياتها الأولى والآخرة. فكان هذا القائد على الدوام رسول الله إلى عباده على مدى الأزمان حسبما يقتضيه الحال والمقام، وصدق الله العظيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:4-5]
ومر ركب الرسالات الإلهية على مدى الأزمان، فكل رسول يبعث فيبلغ رسالة ربه إلى عباده بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فمن آمن واهتدى واتبع سبيل الله مع رسول الله بَعُد عن الردى، ونال حظه في السعادة بالهدى.
ومن زاغ عن طريق مولاه وأعلن العصيان لرسول الله، فقد عرض نفسه للردى، وكسا حياته بالتعاسة والخسران والانحراف عن الهوى، كما قال جل جلاله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15].
وجاءنا مسك الختام، ورسول السلام، ونور الله في أرضه لجميع الأنام إلى يوم الدين، سيدنا ومولانا وشفيعنا محمد بن عبد الله من ولد عدنان، وذلك على فترة من الرسل، وقد صارت البشرية في نهايتها على مشارف الآخرة، في حاجة ماسة إلى رسول من الله يعدل مسيرتها في الحياة، ويرسم لها طرائق الآمال التي يرتضيها خالقهم لعباده في دنياهم، ويوم يقوم الأشهاد.
وقد كان الناس في حاجة إلى هذا النبي، حيث انحرفت بهم مسالك الحياة، فعاشوا في ظلمات كقطع الليل المظلم، من قتلٍ، وسفك دماءٍ، ونهبٍ للأموال، وإتيان الفواحش، وحروب مدمرة، وفساد في الأخلاق عند كثير من الشباب، وانحلال تام في الحياة الإنسانية، فجاءهم رسول الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور... وحقًّا ما قاله أحد المحبين المخلصين:
لمــا أراد الله جـل جلاله أن ينقذ الدنيا من العثرات
أهداك ربك للورى يا سيدي فيضًا من الأنوار والرحمات
ويقول الأستاذ المربي الشيخ محمد فتح الله كولن ما ترجمته: «وكان صلى الله عليه وسلم يحلّ أعقد المشاكل الاجتماعية بكل بساطة وسهولة، وبعده بثلاثة عشر قرنًا أشار جورج برنارد شو على هذه الحقيقة قائلاً: ما أحوج عصرنا إلى شخص مثل محمد صلى الله عليه وسلم يحلّ له مشاكله، ريثما يشرب فنجانًا من القهوة، وهذا هو المهم، فالفضل ما شهدت به الأعداء"[1].
وفي كلام برنارد شو إشارة إلى عودة الفتن التي غطت العالم لبعدهم عن منهاج السماء، وموت العلماء، وضعف الدين في نفوس الأحياء، فقد كثرت عليهم النعم، وانفتحت الدنيا وما فيها من كرم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وهذا الضلال هو الذي نراه الآن في ركب الإنسانية الحائرة وحياتها الخائرة.
فشباب المسلمين قد خدعوا بمدنية الغربيين، وظنوا أنها جاءتهم بلا عمل ولا جهد، أو عرفوا أنهم يعملون، لكن الشباب لا ينظرون إلى الوسائل والبدايات، والمسالك الموصلة إلى الغايات، وإنما بروق المدنية الزائفة وما فيها من زخرف يأخذ بالعيون والألباب، فيندفعون نحوها، فيا ليت قومي يعلمون.
يا معشر الشباب انظروا إلى تاريخكم المشرف في بناء دولة الإسلام إبان العهد الذهبي الذي بناه سيد العالمين ورحمة الكائنات إلى يوم الدين، ترون شبابًا حول المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم يفتدون رسولهم ودينهم بأرواحهم وأبدانهم وآبائهم وأمهاتهم طلبًا لعزة الله في هذه الحياة، ويوم يقوم الناس لرب العالمين، فدانت لهم المشارق بما فيها من ممالك، والمغارب بما كانت عليه من سلاطين يتعاركون، وقد ساد بينهم التطاحن في ظلمات الجهل مع الشياطين، حتى سطعت أنوار الله عليهم فكانوا مسلمين.
فيا شباب الأمة، أنتم السواعد القوية لإقامة الحضارة الإسلامية، وبناء صرح الأمة المرضية، فكونوا عاملين على هذا السبيل...
وهذا نبيكم الذي رباكم في بداية الأمر على هذا الخط المستقيم كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153].
ولقد رسم الله سبحانه، هذا السبيل في الآيات السابقة على هذه الآية فقال عز من قائل: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[الأنعام:151]، وهذا هو أول السبيل؛ توحيد الله الذي لا إله سواه، وأنه صاحب الخلق والأمر.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام:151]، وهذه صلة الرحم الأولى، بحيث لو نَمَتْ في روح الأمة، لرأيت أمة واحدة متناصرة، لها ثمراتها الطيبة.
{وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام:151]، فالآية فيها عناية الآباء بالأبناء. وكانوا في الجاهلية يقتلونهم خوفًا من الفقر، أو كانوا فقراء فحماهم الله تعالى بهذا التصريح، وأنه الرزاق ذو القوة المتين.
{وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}[الأنعام:151]، وفي هذا النعي حفظ للإنسان نفسه عن كل ما يضره من الموبقات ظاهرًا وباطنًا، كالزنا، وشرب الخمور، وقول الزور، والحقد والحسد والعداوات... ونحو ذلك من الموبقات المهلكات للأمم والشعوب.
{وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[الأنعام:151]، وهذا نهي عن قتل الإنسان لأخيه الإنسان، أو تخطي حدود الأدب معه في حال... فكل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه كما صح عن المصطفى المعصوم صلى الله عليه وسلم.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام:151]، فالعاقل هو الذي يدرك هذه المعاني وآثارها في الحياة.
{وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}[الأنعام:152]، وهذا تنظيم للعلاقة مع اليتيم الذي فقد عائله، ليكون المجتمع متماسكًا، كشجرة واحدة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم:24-25]، {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:74].
{وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[الأنعام:152]، وهذه قاعدة التعامل في الأسواق بالبيع والشراء كما جاء في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ}[الرحمن:9].
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام:152]، فهذا نظام القول والشهادة في كل الأمور لجميع الناس.
{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا}[الأنعام:152]، فهذه العهود عقود بين الناس يراها العليم الخبير ويشهد عليها، ولذا وجب الوفاء، وإلا حوسب العبد على نقض العهد في دنياه وأخراه من العليم بذات الصدور.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الأنعام:152]، وهذه الذكرى الدائمة تبعث فينا الحياة الطيبة، وفي الآخرة الثواب بالجنات والنعيم المقيم.
المصدر: مجلة حراء

محمد.. محرر الإنسان والزمان والمكان


محمد محرر الإنسان والزمان والمكان
محمد محرر الإنسان والزمان والمكان
حين يحدق الباحث في ملامح الحركة التاريخية قبل وبعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتاج إلى معاناة ليستجلي حقيقة موضوعية أكبر من أن تتوارى في غياهب الجدل، هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الميلاد العظيم كان إيذانًا بثورة كونية شاملة عملت عملها في تغيير علاقات الأشياء بعضها مع البعض، وفي تغيير علاقات الأحياء بعضهم مع البعض، حتى ليمكن القول بأن ما حدث كان تحريرًا كاملا لوضعية الإنسان في الأرض، ووضعية الأرض في الكون، ووضعية الزمان في التاريخ.
أجل، كان هذا الميلاد العظيم إيذانًا ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعًا، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجًا قبليًّا على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهِمَ ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولكن كيف؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان من ربقة عبودياته المتعددة؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الزمان من قبضة كونه إطارًا للحركة التاريخية الهابطة؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم المكانَ من وضعية كونه صنمًا أو مناطًا لصنم معبود على الأرض؟
القضية جرت بها أقلام كثير من الباحثين، ولكنهم تناولوها من منظور كمي إذا جاز أن يقال، بمعنى أنهم رصدوا كمَّ التحول التاريخي على مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، دون أن يفطنوا إلى جدل هذه المستويات وإشعاعاتها التي تشكل خلفياتها الحقيقية، وهو ما نحاول تجليته في هذه السطور..
ولكن.. كيف.. مرة أخرى؟
***
التاريخ هنا لا يستطيع أن يكذب على نفسه.. فإن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إنسانية الإنسان تكاد تشكل كل ملامح رسالته الشامخة، لأن القيم والأعراف والمبادئ والنواميس والأحكام والشرائع والقضايا والمقولات التي يمكن أن تشكل في النهاية مجموع الرسالة الإسلامية ليست بذات بال إن هي فقدت محور وجودها الصميمي الذي هو الإنسان.
إن قيام الإنسان بهذه المواضعات الإسلامية هو ما يعطيها معقولية وجودها على الأرض، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن نزول القرآن "منجّمًا" كان ترتيبًا طبيعيًّا على مقدمة أساسية وهي أن معاناة البشر الكادحين هي بالضرورة محور تنـزُّل الوحي من السماء إلى الأرض، أي أن وجود الشرائع والرسالات هو وجود متوقف على وجود آخر قَبْلي ومسبق وهو الوجود الإنساني، فما لم يوجد الإنسان كان لا يمكن أن توجد الشرائع، وما لم يحفر البشر تاريخهم الحلولي على أخاديد الصخور وأعراف الجبال كان لا يمكن للرسالات أن تحفر تاريخها الحلولي على أخاديد الورق أو في أعراف الطبائع والنفوس!
إذن فقد كان تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان تحريرًا مقصودًا وقَبْليًّا، ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة بأن كل الجراح التي نزفت من محمد صلى الله عليه وسلم كانت جراحًا حميمة إلى قلبه، لأنها نزفت دمًا هنا ورقَأَتْ دمًا بلا حدود هناك، أعني أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع.
إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنوانًا على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!
كان الإنسان –قبل محمد صلى الله عليه وسلم- يتكئ في قناعته على مسلّمات كثيرة، فأطلق محمد صلى الله عليه وسلم فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح.. لقد زلزل هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق، فأطلق لفكره العِنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائمًا لطبائع التطور، ويشيد على أنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزًا عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني.. وزلزل هذا الإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت، فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من «القيمة» وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب..
وزلزل هذا الإنسان أخيرًا بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض، فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.
وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد صلى الله عليه وسلم لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليدًا بلا عقل، وكاسدًا بلا فعل، ومعطلا بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء!
***
وليس فعل محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير الزمان بأقل من فعله في تحرير الإنسان، وإن كنا نلاحظ منذ البدء أن الفصل بين الإنسان والزمان فصل عشوائي وغير مبرر على الإطلاق، إلا أن التقسيم المرحلي لقيمة الفعل البطولي الذي قاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحتم أن نقف عند كل مرحلة على مشارف لا نتعدى إطارها إلى إطار آخر حتى لا تختلط التخوم والأبعاد..
إن تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للزمان يتوهج في حقيقة أولية توشك ألا تلمحها البدائِهُ العَجلى، وهي اقتداره العظيم على اقتلاع حركة الزمان بما هو تاريخ من فوضى التدفق العشوائي إلى تحديد الملامح وتجسيد الهويات، بمعنى أن التاريخ الزمني كان إطارًا سائبًا لا تجري داخله حركة عقائدية محددة تبدع للإنسان شوطًا يجريه، أو هدفًا يحققه، أو إنجازًا يضعه على الأرض..
فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليجعل من هذا التاريخ الزمني إطارًا لحركة تبدأ تخومها من الأرض لتنتهي في السماء، أي أن حجم هذه الحركة العقائدية التي أعطاها محمد صلى الله عليه وسلم للتاريخ الزمني محتوىً ومضمونًا، تبدأ بمفردات الوجود الإنساني على الأرض لتتوافق في نهاية الرحلة مع كلية الوجود الإلهي في الأشياء وما قبل الأشياء وما وراء الأشياء!
هذا شيء.. وشيء آخر لا يقل عن ذلك تأصلاً وإشعاعًا.. ذلك هو انتقال محمد صلى الله عليه وسلم بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة للإنسان إلى شواطئ العناق للإنسان، بمعنى أن التاريخ الزمني كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم عدوًّا للإنسان يتربص كل واحد منهما بالآخر في محاولة لإجهاض وجوده على الأرض، ولذلك نرى المساحة الكبرى من الإبداع العقلي والفني لإنسان ما قبل التاريخ الإسلامي تغصّ بقتل الإنسان لزمنه التاريخي في قصف هنا، أو لهوٍ هناك، أو حرب غير مبررة هنالك، ربما لإحساس هذا الإنسان بأن الزمن التاريخي يتربص به، فهو يحاول قتله قبل أن يستطيع هو أن يقتله، وكلاهما قاتل ومقتول في نفس اللحظة وعلى نفس التراب! حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم انتقل بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة إلى شواطئ المعانقة، وشكل للإنسان حاسة تاريخية ترى في اللحظة الآنية إثراءً طبيعيًّا للحظة الحاضرة، وفي الآن الماضي تربة طبيعية لتشكيل الآن المستقبل، استطاع الإنسان بعدها أن يفيق على حقيقة أن الزمن هو إطاره الطبيعي، وأن تدمير الإطار يعني على الفور تدمير الذات الساكنة في هذا الإطار، فعزف عن مناوأة تاريخه الزمني، وعقدا معًا ما يشبه الحلف المقدس، فأحس الإنسان المسلم دائمًا أن الزمن ثروةٌ ينبغي أن تُستغلّ، وعُمرٌ يجب أن يمتلئ، وتاريخٌ لا بد أن يحتوي أروع ما في الإنسان من طاقات وإبداعات!
وما لنا لا نحاول أن نفهم من المواقيت الزمنية الصارمة للصلاة والصيام والحج والزكاة فوق حكمة مشروعيتها حكمة حلولها في وقت معين وزمن بذاته ربما لتحرك في أعماق الطبيعة الإنسانية قيمة الزمن والإحساس بتاريخية كل الأشياء؟
الحق أن حجم التحول الذي قاده النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم في مجال تحرير الإنسان والزمان حجم يجب أن يظل في مناطق الضوء، لأن به وحده يمكن التعرف على ضخامة العطاء الإنساني والرسالي الذي وهبه لنا هذا النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم، الذي حمل في عينيه أحلام مستقبل البشر.
***
فإذا انتقلنا إلى تأمل ملامح الحركة الثالثة وهي تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للمكان، لراعنا أن قوة الفعل هنا لا تقلّ عن روعة الفعل هناك، فإذا تخطينا ملاحظة أن الفصل هنا كذلك بين الإنسان والزمان والمكان فصل مرحلي تحتمه طبيعة التأمل والفهم ولا تحتمه طبائع الأشياء لأن طبائع الأشياء ترفض هذا الفصل ولا تزكيه، إذا تخطينا ذلك كله إلى محاولة تأمل قيمة الفعل الذي أعطاه محمد صلى الله عليه وسلم لتحرير المكان تتميمًا لتحرير الإنسان والزمان، لبدهنا على الفور أن علاقة الإنسان هنا بالمكان غير علاقة الإنسان هناك بنفس المكان –بمعنى أن المسرح المكاني الذي جرت عليه أحداث الحياة قبل البعثة المحمدية، ولكن علاقة إنسان الجاهلية بهذا المكان غير علاقة إنسان الحركة الإسلامية بنفس هذا المكان، لأن طبيعة الجدل بين الإنسان وإطاره الطبيعي الذي هو المكان قد وضعت في المنظور الإسلامي على مستوى آخر يرى في الأشياء صديقًا وملهمًا ومحرابًا، إن الأرض هنا تصبح «مسجدًا وطهورًا».. ويصبح المكان قبلة وكعبة ومنسكًا وبيتًا وحقلا وميدانًا وملاعب ذكريات..
وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حرر جبين الأرض من أن تصبح مجرد صنم أو مجرد مناط لصنم، فإن ذلك يعني أن قد حررها من أن تكون بوضعيتها المكانية غير قادرة على الإلهام والعطاء، لأن صنمية الأشياء تعني رفض تعقل الأشياء، أي أن الصنم يتطلب عقلا صنمًا لا يفكر، لأنه إذا تحرك بالفكر رفض على الفور مقولة أن يخرّ لـحَجَر الصنم..
فإذا حرر محمد صلى الله عليه وسلم هذا التاريخ الطبيعي الذي نسميه الأرض، أو نسميه المكان من أن يكون صنمًا أو مناطًا لصنم، فإن ذلك يعني أنه أعطى هذا التاريخ الطبيعي اقتداره الطبيعي على أن يلهم ويحرك ويستثير، بمعنى أن الأرض بهذه الوضعية تصبح مجالا لتأمل الفكر، وطموح العقل، وجسارة الاستشفاف، وما دام ذلك كذلك، فإن رحلة العروج الإيماني قد تبدأ من نبتة طالعة في الصخر، أو نبع متدفق في الرمال، أو شفق هائم على صدر الأفق، أو مضيق متعرج بين جبلين.. وهنا لا بد أن نفطن إلى نداءات محمد صلى الله عليه وسلم المتواصلة التي كان يعقد فيها صداقة كونية بين مظاهر الطبيعة وإنسان هذه الطبيعة، حتى لنراه يدمع وهو يفارق مكة، ونراه ينحني على الزرع الطالع في تعاطف حميم، ونراه يقبل الحجر الأسود، ونراه يميط الأذى عن الطريق..
إن هذا الفعل الرسولي ليس فعلا عشوائيًّا يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار في عفوية ساذجة ولكنه يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار ليشكل هذا التواصل الوجداني بين الكون والإنسان، ربما ليستحيل الإنسان في الكون إلى طاقة متلقية وواهبة تعطي الكون معنى أن كان ومعنى أن يكون، وهذه هي قيمة الفعل في تجاوب النقائض والأضداد!
لا أدري بعد.. هل يمكن أن تغيم مقولة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم حرر الإنسان والزمان والمكان منذ لحظة وجوده على الأرض فاعلا وغلابًا؟ أم أن هذه المقولة بعد تأمل كل هذه المفردات يمكن أن تكون كما يكون طلوع الشمس في أعقاب ليل بهيم، حركة كونية لها ثقل الحركة بكل أبعادها الهائلة، ولها جلال الكون بكل أسراره وغوامضه وضوافيه؟
أعرف أن الاختيار الأخير هو الأصوب، وأن ما عداه خرافة يجب أن نهزمها في عقل التاريخ!

الرسول يربي أصحابه على الحب


http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/13/04/15/mohamed-love.jpeg
ورد في مذكرات أحد الدعاة، أن شابًّا مسلمًا من بلاد الجزيرة العربية سافر إلى بلاد الإنجليز، وهناك سكن في بيت إنجليزي مع امرأة عجوز، وقد اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وكان يقوم إلى صلاة الفجر في البرد القارس المثلج إلى صنبور الماء؛ فيتوضأ، فكانت العجوز تلاحظه كل صباح، قالت له ذات مرة: أمجنون أنت؟ قال: لا، قالت: وكيف تقوم في هذه الساعة لتتوضأ؟ قال: ديني يأمرني بذلك. قالت: ألا تتأخر؟ قال: لو تأخرت لما قَبِل الله مني، فهزت رأسها وقالت: «هذه إرادة تكسر الحديد» ..
إن الذي أتى بهذه الإرادة الفولاذية إنما كانت وليدة حب هذا الشاب لله ورسوله.. ذلك الحب الذي جعله يتحمل الماء البارد ويترك فراشه الدافئ للقاء حبيبه وهو المولى عز وجل، يلقاه في الصلاة. ما أحوجنا -نحن الآباء والمربين- إلى قبسات من نور النبوة، لنهتدي بها في تربية أولادنا وبناتنا على الحب، في زمن قلَّ فيه الحب، واختلت فيه القيم، واضطربت الأخلاق، وصال الناس وجالوا في مواطن الوحل، وهم يحسبون أنهم على جادة الحضارة والتمدّن والرقي، وهم في الواقع يهبطون إلى أسفل مدارك السلوك!
نحن في حاجة إلى أن نعرف معالم هذه التربية القويمة عند رسولنا الكريم في زمن رفع فيه مدّعو الحضارة والمدنية والديمقراطية شعارات أهلكت الأفراد والأمم، وإذا ما استمرت في غيِّها ستقضي على الأخضر واليابس.
وتتبادر إلى الذهن عدة أسئلة؛ أهمها: كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم الأجيال على الحب؟ وما الهدف الذي رباهم على أن يسعوا إلى تحقيقه ومن أجله يعيشون أو يموتون؟ وماذا كانت ثمرات تربيته التي انعكست على شخصيات أصحابه؟..
أنا الآن لست بصدد الحديث عن سياسي عظيم، فرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أعظم من الساسة جميعًا، ولست أتحدث عن اقتصادي بارع، فنبينا العظيم أعظم من الاقتصاديين جميعًا، ولا أتحدث عن زعيم فهو أعظم الزعماء قاطبة، ولا عن أديب من الأدباء، فهو أعظم من هؤلاء جميعًا، ولكني أتحدث عن النبي المعلم المربي على الحب.
إنه النبي الرسول الذي بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.. إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة إلى العالمين جميعًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء – 107]، إنه المعلم والمربي الأعظم الذي حدد له ربه مهامه، فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة - 2].
فبيّن رب العزة هنا أن من المهام الرئيسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التعليم والتزكية؛ أي الترقية والتهذيب والتربية والإصلاح..
فالمصلحون أصابع جمعت يدًا *** هي أنت بل أنت اليد البيضــــــــــاء
فإذا سخوت بلغــــــــــــت بالجود *** المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ *** هذان في الدنيا هما الرحمــــــــــــــــــــــاء
لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالنور الذي أضاء العالم، فأنقذ البشرية من ظلمات الاستعباد وأمراض الطبقية ونزعات الجاهلية ونزواتها، ليعطي بديلاً عادلاً راقياً حضارياً لحياة البشر، ليصنع حدًّا لهؤلاء الذين استعبدوا شعوبهم وحكموهم بالتخويف والترهيب، ليسوسهم محمد صلى الله عليه وسلم بمنهج الحب، على حين أتى ستالين ولينين وهتلر يسحقون البشر ويعذبونهم ويحرقونهم، ومع ذلك نجد دعاة التحضر والتمدّن من أبناء جلدتنا يسبّحون بحمدهم ومبهورين بهم، وهؤلاء المولعون بهذا الزيف قال فيهم الشاعر وفيمن انبهروا بهم:
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا..
لقد أتى محمد "صلى الله عليه وسلم" ليخرج من الأمة البائسة الأمية أمةً رائدةً مجيدةً خالدةً..
فماذا فعل غيره من الفلاسفة؟
ماذا فعل الشيوعيون والليبراليون والعلمانيون والقوميون والرأسماليون والاشتراكيون؟
لقد صدعوا أدمغتنا بصخبهم في الإذاعات والفضائيات، ورفضوا شرع ربهم ومنهج حبيبهم، وشخبطوا في الصحف والمجلات بكلمات جوفاء لا صدى لها ولا مغزى ولا معنى، وما غيروا شيئاً إلا إلى الأسوأ..
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد غير العالم ونقى النفوس وطهرها وزكاها، وربى القلوب فاستحق أن ينال وسام التغيير الإيجابي.
إن البرية يوم مـــــــبعث أحـــــمد *** نظــــــــــــر الإلــــــه لهـــــــــا فبدَّل حالها
بل كرم الإنسان حــين اختار *** من خير البــــــــرية نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهــــــــــو قـــــــــائد أمة *** جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآهـــــــــا الله تمــــــــشي نحـــــــوه *** لا تبـــــــــتغي إلا رضــــــاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعـــــــلى شأنها *** وأزال شــــــــــائنها وأصــــــــلح بـــــــــالهــا
لقد أسند الله تبارك وتعالى مهمة تربية هذه الأمة إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن تربية أصحابه في حياته ولا يزال هديه يقود المسيرة التربوية حتى يصل بأمته إلى الجنة. فقد ربىَّ أصحابه على حب الله ورسوله حباً تُزهق من أجله الروح، ويمزق من أجله الجسد، ويضحى من أجله بالنفس والنفيس.
فحب الله ورسوله أعظم أصول الإيمان، لذلك لما أتى إليه اليهود وقالوا: نحن نحب الله ولكن لا نتبعك، فكذب الله حُبهم، وأبطل دعواهم وقال لهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب – 21].
نماذج ممن رباهم على الحب:
1- أبوبكر الصديق:
أبوبكر الصديق شخصية عجيبة، جمعت بين الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والآناة والسرعة والتواضع والعظمة، والبساطة والفِطنة.شخصية وهبها الله من فضائل الأخلاق والسجايا الكثير والكثير، كما وهبها حلاوة المنطق وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظر، وصلابة العزيمة.. هذا كله وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجيب.
لقد رباه النبي صلى الله عليه وسلمعندما بادره وأعلن له حبه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته»(رواه البخاري).
وفي الجانب الآخر نرى أن أبا بكر تميز عن غيره في شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أحبه حبًّا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه، حتى صار جزءًا لا يتجزأ من كيانه، والصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحدًا منهم لم يصل حبه للنبي إلى حب أبي بكر.
وحُبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكملات الإيمان، لقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (رواه البخاري).
وأبو بكر رضي الله عنه أشد الناس إيماناً بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثم فهو أشد الناس حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحب العظيم له دليل من مواقف السيرة، ففي الهجرة فرح أبو بكر لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مهاجر رد عليه في لهفة قائلاً: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصحبة»..
فهذا دليل على الحب المتبادل بينهما.وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تصور هذا الموقف فتقول: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ».
يا الله! يبكي أبو بكر من الفرح بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، برغم ما في هذه الصحبة من مخاطرة قد تزهق فيها النفس، فمكة كلها تطارده، كما أنها قد تعرّض ماله وأهله للضياع، وبها يترك بلده وبيته!وعندما وصلا إلى الغار أصر أبوبكر أن يدخل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لحبيبه: «والله لا تدخله حتى أدخله قبلك؛ فإن كان فيه شر أصابني دونك، فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثُقوباً فشق إزاره وسد واحداً، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبوبكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دمعة على وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا أبا بكر؟»، قال: لُدغت فداك أبي وأمي، فتفل النبي صلى الله عليه وسلم على مكان اللدغ فذهب الألم.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش «ذات السلاسل»، يقول: فأتيته (أي أتى رسول الله)، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها». قلت: ثم من؟ قال: «عمر»، فعد رجالاً.ومن علامات حب أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم اقتداؤه به واتباعه، وفي ذلك حبٌ لله ولرسوله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[آل عمران - 31].
ولقد كان أبو بكر الصديق يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، حتى لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة، وكان ملتصقًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبطريقته ومنهجه؛ أي إن قَدْرَ السُّنة كان عنده عظيمًا جدًّا، لأن في ذلك البرنامج العملي الدال على حب الله ورسوله. والسُّنة هي طريقته صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب والأمن والخوف، وفي الصحة والمرض، وفي السفر والإقامة، وفي السياسة والاقتصاد، وفي الاجتماع وفي المعاملات، وفي كل وجه من أوجه الحياة أو العبادات.
2- عمر بن الخطاب:
لقد رباه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على حب الله ورسوله. وحسناً أن نتأمل هذا الحوار الواضح بين النبي صلى الله عليه وسلم وعمر إذ قال عمر: يا رسول الله، والله إنك أحب إليَّ من مالي ومن أهلي ومن ولدي إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك»، قال: فوالله -يا رسول الله- إنك أحب إليّ حتى من نفسي.
وفي سنن الترمذي بسند حسنه بعض أهل العلم أن عمر بن الخطاب لما أراد العمرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنسنا من دعائك يا أخي».
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي يقول لأحد تلاميذه: «يا أخي»، ويعلق رضي الله عنه على ذلك قائلاً: «كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما عليها»، أي إنها أحب إليه من الدنيا وما فيها، وذهب عمر إلى العمرة، لكن كأنه ترك قلبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأشواقه وأحاسيسه، يصدق في وصف حاله قول الشاعر:
بِنْتُمْ وبِنّا فما ابتلت جوانــحنا *** شـــــوقًا إليكم ولا جــفَّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا *** يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
3- أنس بن النضر:
لقد رباه النبي صلى الله عليه وسلم على حب الله ورسوله، وهذا الحب أثبت قوته ورسوخه وأصالته في أُحد، فلقد دفعه هذا الحب إلى أن ينهض من المدينة بسيفه إلى أُحد فيقول له سعد بن معاذ: عد.. عد يا أنس، فقال: «إليك عني يا سعد، والله الذي لا إله إلا هو إني لأجد ريح الجنة من دون أُحد»، ويموت ويضرب بثمانين ضربة، أليس حبًّا صادقًا؟
4- حنظلة (غِسّيل الملائكة):
لقد أثمرت تربية الرسول لأصحابه على الحب رجالاً أحبوا الله ورسوله عما سواهما، وكان من هؤلاء حنظلة الغِسّيل - وحديثه صحيح - الذي ترك زوجته في أول ليلة من عرسها، وانتفض وهو على جنابة، فاستشهد في سبيل الله، وقدم دمه برهاناً على حبه لله ورسوله، حتى قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" وهو يلتفت إلى السماء: «والذي نفسي بيده، إني لأرى الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض».. فانظر - أخي القارئ - إلى هذا الحب الراقي العظيم.
5- عبدالله بن جحش:
هو أول من سمي بـالأمير يوم أُحد، قال يومها: «اللهم إنك تعلم أني أحبك - وهذا مهر البيعة - اللهم إن كنت تعلم ذلك فلاقِ بيني وبين عدو لك شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقع عيني، ويقطع أذني، فإذا قلت لي: يا عبدي لِمَ فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب».
المصدر: موقع التاريخ نقلا عن جريدة المجتمع الكويتية


محمد صلى الله عليه وسلم .. الإنسان الرقيق


http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/12/08/35/250px-Mohammad.jpg
من أهم الجوانب المثيرة للاهتمام بقوة في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان إنسانًا رقيقًا مرهف الإحساس، وعرفت عنه هذه الرقة على مدار حياته، مارسها بعفوية تؤكد أنها جزء أصيل في مكونه النفسي، وأنها ليست ناتجة عن افتعال أو تكلف.
ولن نتفهم روعة الرقة في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا أدركنا أن هذه الصفة كانت تحسب سلبًا على الشخصية العربية في المجتمع العربي قبل الإسلام، الذي لم يكن مجتمعًا حقيقيًّا وفقًا للمعايير المجتمعية، فهو يتمثل في قبائل متناثرة معزولة عن العالم الخارجي الذي لا يربطه به سوى رحلات تجارية موسمية، أو رحلات علمية فردية نادرة، وليس له قانون ثابت موحد، وإنما تغلب عليه فلسفة القوة وثقافة العنف.
ومن الطبيعي في مثل هذه البيئة الإنسانية أن يصبح دور الرجل الضعيف والمرأة مهمشًا وغير فاعل؛ لأن الجدارة المواطنية تعتمد على القوة القتالية اللازمة لحماية الديار، أو حراسة القوافل التجارية، أو الكر والفر، والترحال المتواصل وراء الماء والمرعى.
وقد أثارت رقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعض معاصريه من العرب، كما حدث مع الأقرع بن حابس وهو رجل من أهل نجد عندما دخل عليه ورآه يقبِّل حفيده الحسن بن علي، فتعجب من ذلك وأخبره بأن له عشرة من الولد ما قبل منهم أحدًا، فيأتي تعليق النبي محمد صلى الله عليه وسلم على قوله بردّ هذه الرقة إلى رحمة الله تعالى، ووجّهه إلى أن يكون رحيمًا، وأن رحمة الله بالناس مرهونة على رحمتهم بأنفسهم، وساق هذه الحكمة الإنسانية في جملة بليغة: «من لا يرحم لا يرحم».
ولم تكن تلك الرحمة خاصة بحفيده الذي يحبه فقط، فالشمائل الأصيلة لا تتجزأ، ولكنها تجري كنهر رائق في مجراه التاريخي بلا كدر، فكان إذا مرَّ على صبية يلعبون سلم عليهم وداعبهم.
بل إن جسامة مسئولياته وتنوع همومه لم تمنعه من مواساة طفل صغير رآه حزينًا لموت عصفوره، فيلاطفه بكنيته ويسأله: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟».
وذات الرقة مع الأطفال، تتجلى فيه وهو في ساحة القتال، قائدًا مظفرًا له الكلمة العليا، فموقفه من الأسرى المحاربين، وهو في قمة نشوة الانتصار على عدوِّه اللدود قريش التي آذته وحاصرته وكافحت لقتله والقضاء على دعوته حتى هاجر من قريته مكرهًا. ففي أول انتصار حاسم له عليها، لم يظهر أبدًا كقائد عسكري يعبر عن قوته بإراقة الدماء، والتنكيل بالعدو المنهزم، ولكنه عبّر بتلقائية عن سموّ نفسه، ورقي إنسانيته.
فبعدما استشار أصحابه في موقفهم من الأسرى، اختار أن ينحاز لقبول الفداء منهم، أو العفو عنهم مقابل أن يعلم كل أسير منهم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، بل إنه بادر بطلب إجراء تبادل للأسرى مع أعدائه ليعيد إليهم جارية وابنتها وقعتا في سهم صاحبه سلمة بن الأكوع.
وهل عرفت البشرية قائدًا عسكريًّا منتصرًا يتحلى برقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
وأيّ قائد عسكري هذا الذي يلفت نظره مشهد امرأة في الأسر تبحث بلهفة عن ولدها الذي فارقها حتى عثرت عليه فألزقته ببطنها وأرضعته، ولفت نظر أصحابه إليها، واتخذ من رحمتها بولدها درسًا تربويًّا لهم؟
وفي نصره الأكبر، عندما دخل مكة فاتحًا منتصرًا بعدما انكسر أعداؤه من قريش واستسلموا له، دخلها متواضعًا، مطأطئ الرأس، بلا أقواس نصر، بلا انتقام أو إراقة دماء، وأصدر عفوه الشامل عن أعدائه المستسلمين ببساطة وبلا شروط.. «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وبعد فتح خيبر مر صاحبه بلال بن رباح بامرأتين من أسرى الحصن على قتلاهم، فصاحت إحداهما وحثت على رأسها التراب، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: «أنزعت منك الرحمة يا بلال، حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟».
ووصايا النبي محمد صلى الله عليه وسلم تنبع من رقيِّه الإنساني في الحرب كما في السلم سواء بسواء.
وهل عرف التاريخ قائدًا عسكريًّا يقود جيوشه المنتصرة دائمًا بهذه الروح الإنسانية السامية؟
فالحرب في دين محمد لا تستهدف القتل، ولا تبتغي فرض الإرادة على الآخر، ولكنها دفع إنساني لإزالة الطغاة الذين يحولون بين الناس وحقهم في الاختيار الحر لقيم حياتهم، ونمط سلوكهم؛ لهذا جاءت أوامره لجيوشه صريحة في النص على حرمة التعرض لغير المقاتلة: «‏اغزوا باسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء‏».‏‏
وهو الحاكم الذي يؤمن أتباعه بأن طاعته طاعة لله، ومخالفته توجب العذاب وتجلب سخط الله، ورغم هذا تأتيه الجارية فتأخذ بيده فلا يمتنع منها حتى يقضي لها حاجتها، ويعينها على أمرها الذي أعجزها، ويداعب المرأة العجوز، ويلاعب الأطفال الصغار، ويحمل حفيديه فوق ظهره ويمشي بهما على أربع، ويرقّ لبكاء طفل فيرحم قلب أمه ويتجوّز في صلاته، ولا يرفع رأسه من سجوده حتى ينزل حفيده الذي اعتلاه.
وعند فتح مكة يأتيه صاحبه أبو بكر بأبيه الذي كان لا يزال على شركه طمعًا في إسلامه، وكان أبوه طاعنًا في السن، فينظر الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ويقول: «هلاّ تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟».
كما أن محمدًا النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمتع بأبهة السلطة، ولم يستثمر حب المسلمين الجارف له لحيازة متع شهوانية، فكان يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه بيده، ويحلب شاته بذاته، ويعاون أهله في مهنتهم، ويخدم نفسه بنفسه.
ويدخل عليه رجل فيهابه وترتعد فرائصه، فيهدئ من روعه ويسكنه، ويقول له: «هوِّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد».
وهو المربي العظيم الذي يحمل عبء الانتقال بالإنسان من صحراء الجاهلية إلى واحة الإيمان، فيأتي إدراكه لحقوق الفئات الضعيفة في المجتمع ليعبر تعبيرًا صادقًا عن عظمته الإنسانية التي لم تتألق في مجتمعه العربي القديم فحسب، وإنما ما زالت متوهجة في سماء الإنسانية إلى يومنا هذا.
فهو ينهر أحد أصحابه لأنه سبّ رجلاً أسود وعيره بسواد أمه وينسب فعله العنصري إلى الجاهلية، ويطرح الفهم الراقي لطبيعة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية المتفاوتة، ويؤكد على وجوب الإحسان إلى الفئات الاجتماعية الضعيفة ماديًّا كالخدم والعمال، ويعبر عنهم بلفظ الإخوة، وأن الله خوَّلهم أن يكونوا تحت أيديهم، ويصدر توجيهه الإنساني الراقي: «فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم».
ولم تقتصر رقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على البشر فحسب، بل تجاوزته إلى الحيوانات العجماء التي تعجز عن التعبير عن آلامها وحاجاتها، فهو يحض أتباعه على الرفق بالحيوان، فيقص عليهم قصة الرجل الذي رحم كلبًا عطشان فسقاه، فغفر الله له بذلك وأدخله الجنة.
ويرهبهم من إيذاء الحيوان والإضرار به، ويربط ذلك الفعل المشين بنار جهنم، فيروي لهم خبر المرأة التي دخلت النار؛ لأنها حبست هرَّة فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها لتبحث عن طعامها.
ونهى عن تحميل الدواب فوق طاقتها، وأمر برحمتها والإحسان إليها.
ولم تقتصر رقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته بالحيوان في حياته فحسب، وإنما جاءت وصاياه لتعبر بدقة عن أصالتها في نفسه، فهو ينهى أصحابه عن ذبح دوابهم أمام القطيع، فالأم لا تذبح أمام ابنتها، والبنت لا تذبح أمام أمها، كما أمرهم بأن يحسنوا إلى ذبائحهم عند الذبح ولا يكونوا قساة، فيسببوا لها عذابًا أو إيلامًا، ويخبرهم بأن هذا أمر من الله تعالى: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته».
ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته الخاصة إنسانًا عبقريًّا بكل المقاييس، فقد تزوج بالعديد من النساء اللاتي يتباينّ في المرحلة العمرية، فمنهن التي تكبره سنًّا كخديجة وسودة بنت زمعة، والصغيرة كعائشة.
والخلفية الثقافية والدينية، فمنهن من نشأت يهودية كصفية وجويرية، ومن نشأت نصرانية كمارية، وغالبيتهن تربين في البيئة العربية المشركة.
كما أنهن تفاوتن في المستوى الاجتماعي والجمالي، وكان القاسم المشترك الأبرز الذي جمعهن أنهن جميعًا أحببنه حبًّا جمًّا.
والمجتمع العربي الذي توأد فيه البنات تحاشيًا لوقوعهن في الفاحشة، أو سقوطهن في الأسر فيصبحن جواري مسترقة.
في هذه البيئة نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو النبي والزعيم يعبر عن حبِّه لعائشة بين أصحابه بلا حرج، فعندما سأله أحد أصحابه: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». فقال: من الرجال؟ فقال: «أبوها».
واللطيف أنه لم يقل: أبو بكر، وإنما نسبه إليها.
وتوجه إليها ذات ليلة بقوله: «أستأذن منك لأخلو بربي». قالت: والله يا رسول الله إني لأحب قربك وأوثر هواك.
والتاريخ يكاد يجمع على تلازم العنف أو الغلظة بشخصية الملوك والحكام والقادة العسكريين، إلا أن شخصية محمد كانت متفردة بجوانبها المعجزة.
والقرآن الكريم يكشف لنا طرفًا من العلاقة الخاصة بينه وبين نسائه عندما دفعت الغيرة بعضهن إلى التآمر عليه، فاتفقن على أن يخبرنه بأن رائحة فمه عسلاً، لتميز إحدى نسائه عليهن بتقديم العسل إليه، فما كان منه إلا أنه حرم على نفسه العسل الذي يحبه ويشربه لمجرد أن رائحته لا تعجب بعض نسائه، فلم يغضب، ولم يعاقب، ولم ير في مقولتهن إهانة له. بل إن المتأمل في الحدث يستشعر أنه تصرف معهن باعتبار أن تحريم شرب العسل على نفسه حق لنسائه اللاتي يجب عليه أن يحرص على مشاعرهن، ولو بتحريم الحلال الذي أحله الله له.
ويعلن القرآن الكريم عن عتاب الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حرم على نفسه ما أحله الله له، ويطرح ملابسات الواقعة ليتعرف الناس على جانب من أدق خصوصياته.
ولم يثبت أنه عنَّف أو ضرب أحدًا من نسائه على مدار حياته، بل كان على النقيض من ذلك تمامًا، فكان يحسن معاشرتهن، ويتودد لهن، ويداعبهن، ويسمح لهن بحضور الجموع في الأعياد ومشاهدة رياضات القوم، بل ويدخل معهن في سباق عدو.
كان هذا منذ خمسة عشر عامًا، وفي صحراء العرب الفقيرة الجاهلية، والمجتمعات المعاصرة ما زالت إلى يومنا هذا تضج بالشكوى من العنف ضد النساء، وتتنادى مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان للتواصي بالتدابير اللازمة لحمايتهن من العنف، وتأتي المفارقة فيما أقدمت عليه مجالس البلديات في بريطانيا من إعداد ما اصطلحوا على تسميته بـ"غرف الرعب"، وهي منازل خاصة لحماية النساء من الشركاء الذين يتسمون بالعنف، وهذا المشروع الذي ينطوي على خَلْق غرف ذات تقنيات أمنية عالية للنساء اللاتي يقعن ضحايا للعنف المنزلي، تم تبنّيه من قِبل 120 سلطة محلية في إنجلترا و165 أخرى تخطط في هذا الاتجاه.
وتأتي شهادة نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برقته معهن، لتدمغ الإنسان المعاصر بأنه يحمل رغم حضارته المادية صفات جاهلية. تقول زوجه عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم اللَّه تعالى فينتقم لله تعالى).
ويوصي صاحبه أبو بكر المؤمنين بأن يقتدوا بسلوك النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، فيقول لهم: (ارقبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته).
وقد يتمكن الإنسان من التحرز بمداراة عيوبه، والتجمل بافتعال الحسن من سلوكياته أمام الناس، لكنه يعجز عن ارتداء قناع مزيف على مدار اليوم والليلة، ومع خادمه المرافق الذي يضطلع على أدق خصوصياته.
لهذا تعتبر شهادة الفتى أنس بن مالك خادم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أصدق الوثائق الدالة على رقيّ نفسية النبي ونبل أخلاقه؛ يقول أنس رضي الله عنه: (ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟).
والمتأمل في تفاصيل حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم سيبهره أنها جاءت خالية تمامًا من العنف.
فحياة الاضطهاد والظلم التي عاناها لم تسمه بالعدوانية، ولم تفجر في داخله القسوة والرغبة الجامحة في الثأر والانتقام، وظلت شخصيته مثالاً بديعًا للإنسان السوي.
آذته قريش وأعلنت عليه الحرب، فلم تسالمه منذ أعلن دعوته على الملأ، وجهر بفكرته المغايرة لثوابت مجتمعهم.
واللافت للنظر في رد فعله تجاه هذا الإصرار على إيذائه ووأد دعوته، فرغم ممارساتهم الشيطانية التي طالت نفسه وأهله وأصحابه وجسده، كان أشد ما رد به عليهم عندما كان يمر عليهم ذات يوم في طوافه حول الكعبة وهم جلوس يسخرون منه مع كل دورة همزًا ولمزًا، فوقف قبالتهم وقال لهم: «‏أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح‏».فما كان منهم إلا أن قاموا إليه يسترضونه ويقرون له بخلقه وحلمه وقالوا له: (انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولاً).
وما تعرض له من إيذاء المنافقين المحسوبين على الصف المسلم، كان يقابله بالقول الطيب، والصفح الجميل، وإحسان المعاملة.
فهذا واحد منهم يأتيه ليأخذ من الصدقة ويصرخ فيه بغلظة وهو في وسط أصحابه بقوله: (يا رسول الله، اعدل) فيمنع عنه إيذاء أصحابه الذين ثاروا لسبِّه رسول الله، ويرد على القول الغليظ الخشن بقوله: «ويلك، من يعدل إذا لم أعدل؟!».
ويعترض آخر على قسمة قسمها ويصيح فيه على مسمع من أصحابه: (اتق الله يا محمد)، فيرفض أن يمسه أحد بسوء، ويخاطبه برقته المعهودة وبلهجة المعلم الرحيم: «من يطع الله إذا عصيت؟! أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني؟!‍».
وينزل عليه أعرابي ليعينه على دية قتيل فيعطيه ثم يسأله: «أحسنت إليك؟» قال الأعرابي: لا، ولا أجملت. فغضب بعض المسلمين وهمُّوا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال: «إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت»، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا وقال: «أحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي؛ حتى يذهب عن صدورهم». فقال: نعم. فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي؟» فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا.
والإيذاء العفوي الذي أصابه من أصحابه كرفع صوتهم فوق صوته، ومناداتهم عليه بطريقة غليظة، والجلوس في حجراته وفي وجود نسائه لفترات طويلة، لم يواجهه بأمر عسكري، أو قرار سلطوي، وإنما كان متحرجًا من لفت نظرهم إليه، واستحى من مواجهتهم بما يؤذيه منهم، وظل صابرًا حتى أنزل الله تعالى جبريل؛ ليعلم أصحابه بما يؤذيه منهم، ويعلن ما يخفيه في نفسه من حرج.
إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم شخصية ثرية تغري بالتأمل فيها، فهو إنسان فذّ بكافة المعايير، جدير بالوقوف في المقدمة الإنسانية.
أليس من حقه علينا كإنسان -وقد بلغنا من العلوم الإنسانية ما بلغنا- أن نتعرف عليه بمعايير علميَّة ومن وثائق التاريخ؟
إن الوقوف أمام شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم سيدفعنا حتمًا لأنْ نتساءل عن كيفية نشوء هذه الشخصية العبقرية في هذا المجتمع الجاهلي؟
أين تعلَّم محمد؟ وأين تربى على كل هذه الصفات السامية؟ ومتى استوعب فنون السياسة والدبلوماسية وقيادة الجيوش وهو مجرد تاجر أمي بسيط؟
الذي لا مراء فيه أن العقل البشري يقف منبهرًا لوجود شخصية كمحمد صلى الله عليه وسلم في البيئة العربية قبل الإسلام.
أخبر التاريخ عن عرب أفذاذ قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لكل واحد منهم تميزه في جانب من جوانب شخصيته، فمنهم شعراء وحكماء وأسخياء وقادة حربيون، ولكن في حالة محمد اجتمعت جوانب العظمة البشرية في شخصية واحدة.
إن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم لم تنبع من شخصية إنسانية مجردة، وإنما نبعت وتفردت من كونه بشرًا يوحى إليه من الله الذي اختاره وزكاه، وعلمه ورباه، وأرسله رحمة للعالمين كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
ويمكننا أن نعالج اندهاشنا هذا بالنظر في وصف الله تعالى له بـ"رءوف رحيم".
المصدر: شبكة الألوكة.