الأربعاء، 16 يوليو 2014

البصر والبصيرة





د. محمد السقا عيد
ماجستير و أخصائي جراحة العيون عضو الجمعية الرمدية المصرية


البصر أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم حولنا نتأثر به و نؤثر  فيه .

و البصر حاسة الرؤية كوظيفة جسدية وحاسة الإدراك كأداة سلوكية فنحن لا نبصر الشيء أي نراه فقط ولكننا نكون سلوكا معينا نتيجة هذه الرؤية . و في مختار الصحاح " بصير بالشيء أي عليم به فهو بصير" و منها قوله تعالى : ( بصرت بما لم يبصروا به ) والتبصر هو التأمل و التعرف والتبصير التعريف و الإفصاح .

و منه قوله : (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) و الإبصار لا يكون مجرد فعل ورد فعل و إنما يكون عملية تفاعل متكاملة . فنرى الشيء و ندركه و نحلله و نكون عاطفة نحوه سلبية أو إيجابية و نسمى هذا الشعور حالة انفعال .
و حاسّة البصر نافذة من نوافد المعرفة ، فبها نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً ، لكنّ الاعتماد على البصر وحده في التشخيص و التمييز والمعرفة غير كاف ، إذ لا بدّ من مرجع آخر نرجع إليه في رفع الالتباس و الغموض ، أي إنّنا بحاجة إلى (ضوء) آخر نكشف به الظلمة العقلية ، وهذا الضوء هو (البصيرة) .

و قد ميز الله الإنسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة و الخطأ والتعلم بالشرطية و التقليدية و المحاكاة إلى مرحلة الاستبصار أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة و مزجها في خليط جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل .

و قد خاطب الله الإنسان في أكثر من موقع قال تعالى" و في أنفسكم أفلا تبصرون "... و تفسير الآية يحمل في طياته أن التبصر أعلى مراحل الوعي عند الإنسان لا تتحقق إلا إذا وصل درجة من العقل ترقي به إلى الملاحظة والاستنتاج و الاستدلال و التحليل و في الحياة العامة نلاحظ عند عامة الناس .

إن كثيراً من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر و البصيرة بين رؤية الشيء و القدرة على إدراكه و الصبر في تحليله و وسيلة التعبير عن هذا الشعور نحوه بالقول أو الفعل .

 ألا يمكن لكلمة واحدة أن تفسد علاقة سنوات أو حركة شاردة أن تهدم أركان أقوى الصلات هذه الكلمة أو ذلك الفعل قد سقط في الخندق الذي يفصل بين البصر و البصيرة . و ما كل ذي عينين بالفعل يبصر و لا كل ذي كفين يعطي فيؤجر .

و السؤال الآن ما هي البصيرة ؟

البصيرة هي الحجة و الاستبصار في الشيء في قوله تعالى : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) .

 و نفاذ البصيرة يعني قوة الفراسة و شدة المراس و قوة الحنكة و القدرة على تخطي العقبات الحالية بالخيرات السباقة المتراكمة بتطويعها و ترويضها و الاستفادة منها في رؤية حلول لمشاكل جديدة .

و قد تطلق البصيرة على العلم و اليقين ، كما في قوله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ...)

 و قد تطلق على نور القلب كما يطلق البصر على نور العين .

قال الراغب البصر يقال للجارحة الباصرة و القوة التي فيها ، و يقال لقوة القلب المدركة بصيرة و البصيرة هي هذه القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الإنسان و ثقافته وتربيته وتجربته ودينه ، و هي ما نصطلح عليها اليوم بـ (الوعي) فقد يكون الإنسان ذا بصر حاذق لكنه ذو بصيرة كليلة ضعيفة ، و لذا اعتبر القرآن أن رؤية البصيرة أهم بكثير من رؤية البصر وذلك في قوله تعالى : (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) .

و البصيرة هي أعلى القدرات التعليمية الفطرية ، و لربما انفرد الإنسان بها ، إذ يصعب قياس هذه القدرة مخبرياً ……

و هذه القدرة تتفاوت قوتها بين أفراد البشر … صحيح أننا كلنا نشعر بها حين نواجه مشكلة أعياناً حلها ثم ( يأتى الجواب كلمح البرق ) و لربما جاء الحل نتيجة تفكير طويل انشغل به الدماغ من حيث لا ندرى .

فالقدرة على النفاذ إلى كنه الأمور و خفايا المعضلات ملكة لا نعرف أحكامها الآلية العصبية ، ونسميها بأسماء كثيرة ( إلهام ، رؤية ، بصيرة ، النظر الثاقب ، أو النفاذ ) و هى ليست القدرة على التحليل المنطقي و الحساب أو الرياضيات ، أو البلاغة .

و حادثة رؤية سيدنا عمر بين الخطاب رضي الله عنه لسارية و مناداته له بمقولته الشهيرة " يا سارية الجبل " رغم بعد المسافة التي بينهما عن مجال البصر العادي هو نقلة للرؤية عبر الضوء السريع ، فألقيت في الشبكية فحذر عمر سارية ، و تلك حادثة بأمر الله تعالى حيث سخر الله الضوء لسيدنا عمر ( فحدث تغير فسيولوجي في البصر و البصيرة ) نقل له هذه اللقطة عبر الشعاع الضوئي تأييداً ونصراً لمن ينصره .

و هذا أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينظر إلى امرأة في الطريق فتعجبه فيطيل النظر إليها ، ثم يدخل هذا الصحابي على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فيبادره بقوله : أما يستحى أحدكم أن يدخل على أمير المؤمنين وفى عينيه آثار الزنا ؟ … فيتعجب الصحابي من معرفة سيدنا عثمان لذلك بالرغم من أن أحداً لم يره ، فيبادر سيدنا عثمان بقوله : أوحى أُنزل بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيقول له سيدنا عثمان : اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله .

 وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظُلمة حيث . تتشابه الأشياء ، أو إنّها تصبح أشباحاً لا يمكن تمييز بعضها عن بعض ، فكذلك إذا فقدنا البصيرة فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص و للأمور . وهذا هو الفرق بين إنسان صاحب وعي وبصيرة ، وآخر عديم البصيرة .

فالأوّل لا يقع ضحيّة الخداع و التغرير و التزوير ، و الثاني عرضة لذلك كلّه أمّا النموذج الآخر فهو الإنسان العاقل الذي يعي الواقع و يدركه و يعرف الناس من حوله ، أي أنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف ، و ما هو عدل و ما هو ظلم ، و ما هو حق وما هو باطل ، فالخير منه مأمول لأنّه مستقيم في فكره و في عمله .

 النموذج الأوّل إذن هو النموذج السالب الذي لا يعطي للحياة شيئاً بل يتسبّب في المتاعب لنفسه ولغيره .

 و النموذج الثاني هو النموذج الموجب الذي يأخذ من الحياة و يعطيها وقد صوّر القرآن المميز بين الاثنين في قوله تعالى : ( أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتّبع أمّن لا يهدِّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) و في قوله تعالى : ( أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم ) .

إنّ الجواب على التساؤل القرآني واضح ، فالذي يمشي سوياً ببصره و بصيرته أهدى من المنكبّ على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشيء و لا ببصيرته ، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً .

كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟

إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة ، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي ، و لا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة .

يقول الله - سبحانه - : " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله .." (الزمر: 22) .

 - و يقول سبحانه : " أو من كان ميتاً فأحييناه و جعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " ( الأنعام122) .

يقول الإمام ابن القيم : " أصل كل خير للعبد - بل لكل حي ناطق - كمال حياته و نوره ، فالحياة و النور مادة كل خير .. فبالحياة تكون قوته وسمعه و بصره و حياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات و حقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته و كذلك قبح القبيح " ( إغاثة اللهفان 1/ 24). فما يكاد نور القرآن و نور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر و الجوارح ، وينسكب في الحنايا والجوانح ، تعانق النور ، و تشرفه العيون والبصائر ، فيشف القلب الطيب الرقراق ، و يتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال ، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة و الثبات وغاية في الطاعة و الإخبات وغاية في التضحية و البذل بكل المتاع الزائل .

قال ابن القيم - رحمه الله - قال الله - تعالى - : " إن في ذلك لآيات للمتوسمين "

قال مجاهد يعني للمتفرسين .

 و في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله " ، والتوسم التفرس و لهذا خص الله بالآيات و الانتفاع بها هؤلاء... و بعث الله الرسل مذكرين و منبهين و مكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي و الإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين 1/110) .



المصادر :

- كتاب القرآن وعلم النفس - د . محمد عثمان نجاتي .

-        كتاب مقومات الوعي والبصيرة

-        مجلة النفس المطمئنة - العدد  53- مقال بين البصر و البصيرة .

د . الزين عباس عمارة - أستاذ الطب النفسي

-        موقع المسلم - البصيرة الإيمانية و إيجابية السلوك الشخصي - خالد السيد روشة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق