.
بوابة النصر: الإنتصار على النفس
أ.د. ناصر بن سليمان العمر | 26/7/1425 هـ
يقول الله تعالى:
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
(يوسف: من الآية21).
ويأتي مصداق هذه الآية تمكين يوسف بعد محن عظام، فكيف مكن ليوسف في الأرض؟ يأتي هذا السؤال، وأمتنا تعيش هذه الظروف الصعبة من تسلط الأعداء، ومن ظلم الظالمين، حتى بلغ اليأس مبلغه في نفوس كثير من المسلمين. فيأتي التساؤل، هل لهذه الأزمة من مخرج؟ هل لهذا البلاء من نهاية؟ هل يمكن أن ينتصر الدعاة، تنتصر المؤسسات، رغم ما يحاك لها؟ ورغم واقعها! ولماذا فشلت كثير من المؤسسات والدعوات في هذا العصر.
لماذا؟ لأنها أخلت بأركان الانتصار.
إن هناك عوامل التزمها يوسف عليه السلام فظهر وانتصر، وما التزم بها فرد أو جماعة أو أمة إلا انتصرت. الانتصار العاجل والانتصار الآجل. وسأقف مع أبرز هذه العوامل والأسباب التي كانت ظاهرة في سورة يوسف.
إن أول انتصار حققه يوسف عليه السلام، هو انتصاره على نفسه. ومن لا ينتصر على نفسه لن ينتصر على غيره، فالمهزوم من هزمته نفسه قبل أن يهزمه عدوه. إن بداية انتصار يوسف عليه السلام هي انتصاره على نفسه. عندما تفاجأ إخوانه، بأن الذي أمامهم هو عزيز مصر،
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)
(يوسف:88)
(قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ )
(قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ،قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)
(يوسف: من الآية91)،
فانتصر يوسف عليه السلام على نفسه عندما انتصر، وانتصر لأنه انتصر على نفسه فلم يحمل حقداً جراء ما حصل، وبعض الناس يعميه الحقد أو الحسد فتغلي نفسه يقوم ويقعد ولاهم له إلاّ النيل ممن أخطأ في حقه فيخطئ بذلك درب المعالي وعزم الأمور وينشغل بالسفاسف والقضايا الشخصية وبنيات الطريق
(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور).
ومن مظاهر انتصار يوسف عليه السلام على نفسه قصته مع امرأة العزيز، فقد انتصر فيها انتصارات متعددة، (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)،
فانتصر على نفسه في مراودة امرأة العزيز له، ويبين هذا الانتصار قوله صلى الله عليه وسلم، في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله" [متفق عليه]. فقوله إني أخاف الله انتصار عظيم. يوسف عليه السلام قال:
(معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون).
وذلك انتصار وأي انتصار على النفس في هذه المعركة الشرسة ومع من! مع امرأة العزيز.
ثم بعد ذلك انتصر يوسف على نفسه ولسانه بعفة منطقه العجيبة! أتريد أن تعرف عظم هذا الانتصار؟ قسه بمقداره تمكنك من سيطرتك على لسانك. وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمسك عليك لسانك. قال له الصحابي الجليل أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ قال له ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ [رواه الحاكم وصححه].
لقد رأيت عجباً في سيرة يوسف عليه السلام من عفة منطقه ولسانه؛ مع إخوانه، ومع العزيز، ومع امرأة العزيز. عفة ندركها عندما نرى ضعف الآخرين في سيطرتهم على ألسنتهم. وإليك بعض الأمثلة التي تدل على عفته وانتصاره على لسانه بينما عجز كثير عن ذلك:
لما أرسل له الملك يطلب منه الخروج من السجن في المرحلة الأولى، قال للرسول:
(ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن).
أين العفة؟ لم يقل له ارجع إلى ربك فاسأله عن امرأة العزيز التي راودتني، لم ينطق بها. قال:
(ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)،
من أجل ألا يحرجها، وألا يحرج النسوة، وألا يحرج زوج المرأة. هذه عفة وتعبير عن المراد بأسلوب عجيب.
انتصر على نفسه عندما جاءه إخوانه وقالوا له في قصتهم مع أخيه، قالوا:
(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل).
هذه القضية تهمة اتهم بها يوسف وهو منها بريء عليه السلام، وذلك عندما كان صغيرا. وقد ذكر المفسرون أقوالا لعله يتأتى المرور عليها في حينها إن شاء الله. والآن وهو عزيز مصر، وهم لا يعلمون أنه يوسف، وبعدما فعلوا به ما فعلوا، وهو يدرك أن كل ما مر به من محن في تاريخه بسببهم؛ من بعد عن أبيه، ومن رمي في البئر، ومن سجن، في قصة امرأة العزيز، ومرة أخرى يكررون تهمة باطلة. ماذا فعل؟ هل ضربهم؟ هل سجنهم؟ هل رد عليهم أمام الملأ؟ لا ..
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ )
(يوسف: من الآية77)،
(قال أنتم شر مكانا).
فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم. وأي انتصار على النفس هذا الانتصار!
ومن انتصاره على نفسه أيضا وهو تبع لهذا الموضوع، الدقة العجيبة في التعبير عما يريد دون أن يقع في الكذب إطلاقا. وكل منا يحاسب نفسه وينظر مدى قدرته على حفظ لسانه وإبعاده عن الزور. لما قال له إخوانه ولم يعلموا أنه يوسف،
(أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين).
ماذا قال؟ قال:
(معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده).
لم يقل معاذ الله أن نأخذ إلا من سرق. وإنما قال:
(معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)،
لأن أخاه لم يسرق، وهو يعرف أن أخاه لم يسرق. فكيف يعبر بتعبير يتخلص من مطلبهم دون أن يقول كلمة زور واحدة، بل قال الحقيقة: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. وهم قد وجدوا متاعهم عند بنيامين حقاً، لكنه لم يسرق، وهذا التعبير دقيق، انتصار على النفس والشيطان والهوى، وأعظم ما يكون عندما يكون من رجل في السلطة يستطيع أن ينفذ ما يريد ويقول ما يشاء، وقد لا يحاسبه أحد في الدنيا، ومع ذلك يحاسب يوسف عليه السلام نفسه قبل أن يحاسبه الناس.
ومن انتصاره عليه السلام على نفسه، عفوه عن إخوانه. هل تريد، أن تعرف مقدار هذا الانتصار؟ لنتأمل أحوالنا، قد يسيء إلينا بعض الناس، إساءات قد نكون سببا فيها، أو قد نشارك في نسبة من سبب تلك الإساءة، ومع ذلك نعجز عن العفو أو الصفح! بل أعجب من هذا إذا عفونا أو صفحنا أتبعنا ذلك بالإساءة لهم عن طريق المن عليهم، بعفونا عنهم! مع أن ما يمر بنا قد لا يعادل جزءا يسيرا مما حصل ليوسف عليه السلام، ابتداء من أول القصة إلى هذه المرحلة. فماذا كانت النتيجة وكيف كان تصرفه؟
(قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين).
(قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم).
دون تأنيب ودون عزل ودون سجن. تسامح، وصفح، وعفو..
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين
بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحوهم وإن
هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس
زعيم القوم من يحمل الحقدا
إنه الانتصار على
النفس، إذا هذه المسائل بمجموعها تدل على أن يوسف عليه السلام انتصر على نفسه،فولج
بوابة الانتصار.نسأل الله أن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا لأحسن
الأفعال والأخلاق، وصلى الله وسلم على نبينا
أ.د. ناصر بن سليمان العمر | 26/7/1425 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق