الأحد، 24 مايو 2015

مقال يستحق ان يُكتب بماء الذهب



مقال يستحق ان يُكتب بماء الذهب 
الدكتور مصطفى محمود رحمه الله 

.
العذاب ليس له طبقات 
الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب. 
و ساكن الزمالك الذي يجد الماء و النور و السخان و التكييف و التليفون و التليفيزيون 
لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الآخر من سوء الهضم و السكر و الضغط 
و المليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به، 
يشكو الكآبة و الخوف من الأماكن المغلقة و الوسواس و الأرق و القلق. 
و الذي أعطاه الله الصحة و المال و الزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة و لا يعرف طعم الراحة. 
و الرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء و انتصر في كل معركة 
لم يستطع أن ينتصر على ضعفه و خضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين و انتهى إلى الدمار. 
و الملك الذي يملك الأقدار و المصائر و الرقاب تراه عبدا لشهوته خادما لأطماعه ذليلا لنزواته. 
و بطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات. 
كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعض الفوارق. 
و برغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي متقارب. 
فالله يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعـسر.. 
و لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية.. 
و لما شعر بحسد و لا بحقد و لا بزهو و لا بغرور. 
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و اللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب.. 
و في داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات و الآهات الملتاعة. 
و الحاسدون و الحاقدون و المغترون و الفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق. 
و لو أدرك السارق هذا الإدراك لما سرق و لو أدركه القاتل لما قتل و لو عرفه الكذاب لما كذب. 
و لو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس و لسعينا في العيش بالضمير و لتعاشرنا بالفضيلة 
فلا غالب في الدنيا و لا مغلوب في الحقيقة و الحظوظ كما قلنا متقاربة في باطن الأمر 
و محصولنا من الشقاء و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة بين الطبقات.. 
فالعذاب ليس له طبقة و إنما هو قاسم مشترك بين الكل.. 
يتجرع منه كل واحد كأسا وافية 

ثم في النهاية تتساوى الكؤوس برغم اختلاف المناظر و تباين الدرجات و الهيئات
و ليس اختلاف نفوسنا هو اختلاف سعادة و شقاء و إنما اختلاف مواقف..
فهناك نفس تعلو على شقائها و تتجاوزه و ترى فيه الحكمة و العبرة
و تلك نفوس مستنيرة ترى العدل و الجمال في كل شيء و تحب الخالق في كل أفعاله..
و هناك نفوس تمضغ شقاءها و تجتره و تحوله إلى حقد أسود و حسد أكال..
و تلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها المتمردة على أفعاله.
.
أما في كوامن الأسرار و على مسرح الحق و الحقيقة..
فلا يوجد ظالم و لا مظلوم و لا متخم و لا محروم..
و إنما عدل مطلق و استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة
لا تتخلف حيث يمد الله يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم و ينير بها ضمائر العميان
و يلاطف أهل المسكنة و يؤنس الأيتام و المتوحدين في الخلوات و يعوض الصابرين حلاوة في قلوبهم..
ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين و يوهن قلوب المتخمين و يؤرق عيون الظالمين
و يرهل أبدان المسرفين..
و تلك هي الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم و النسمات المبشرة التي تأتي من الجنة..
و المقدمات التي تسبق اليوم الموعود..
يوم تنكشف الأستار و تهتك الحجب و تفترق المصائر إلى شقاء حق و إلى نعيم حق..
يوم لا تنفع معذرة..
و لا تجدي تذكرة. 

و أهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم 
و أهل الله في راحة لأنهم أسلموا إلى الله في ثقة و قبلوا ما 
يجريه عليهم و رأوا في أفعاله عدلا مطلقا دون أن يتعبوا عقولهم فأراحو عقولهم أيضا، 
فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين راحة القلب و راحة العقل فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن.. 
بينما شقى أصحاب العقول بمجادلاتهم. 
أما أهل الغفلة 
و هم الأغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل اللقمة و المرأة و الدرهم و فدان الأرض، 
ثم لا يجمعون شيئا إلا مزيدا من الهموم و أحمالا من الخطايا و ظمأً لا يرتوي و جوعا لا يشبع. 
فانظر من أي طائفة من هؤلاء أنت.. و اغلق عليك بابك و ابك على خطيئتك. 

(من روائع دكتور مصطفى محمود رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وغفر له)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق