الخميس، 19 مارس 2015

العواصم من الفتن


العواصم من الفتن
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين أما بعد:
فيا عباد الله :
اعلموا أن من أصول الإيمان وأساس الملة :التصديق والإيمان بكل
ما أخبر به الله عز وجل أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم
ومن كان في شك مما أخبر به الله أو مما أخبر به رسوله الكريم
صلى الله عليه وسلم فهو لم يدخل الإيمان في قلبه والعياذ بالله .
وإن مما أخبرنا الله ورسوله به ما يخص الفتن التي سوف تتعرض لها
هذه الأمة سواءً على مستوى مجموع الأمة أو على فرد من أفرادها .
وهذه الفتن أيها المؤمنون متنوعة: فالكفر والشرك والبدع فتنة ،والوقوع
في كبائر الذنوب والمعاصي فتنة ،والمال فتنة ،والنساء فتنة ،والأبناء
فتنة، والسلطان والملك فتنة وتسلط الأعداء فتنة،والظلم والجور فتنة،
وترجع هذه الفتن بكل أنواعها إلى قسمين رئيسيين:
الأول : فتنة الشبهات .
والثاني: فتنة الشهوات .
أما فتنة الشبهات :
كالتشكيك في الدين، والوقوع في الشرك أو البدع، أو اختلاط الأمر
على الإنسان فلا يميز بين الحق والباطل والمباح والمحرم، وغير ذلك
فهذه فتنة الشبهات، ودواءها كما سوف يأتي بتعلم العلم وسؤال أهل العلم
فبالعلم تزال كل الشبهات .
وأما فتنة الشهوات:
وهي الغالبة كالافتتان بالنساء أو بالمال الحرام أو بالمنصب أو بالجاه
ومن الفتن التي من قبيل الشهوات : الظلم والبغي والتعدي على العباد
بغير حق ،وغير ذلك من فتن الشهوات. ودواء هذا النوع من الفتن:
اليقين بوعد الله ووعيده .
أيها المؤمنون:
أخبرنا الله ورسوله أن هذه الأمة سوف تفتن وتتعرض لأنواع من الفتن
وقد يكون في بعضها خير للمؤمنين:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}
وقال تعالى :

وجاء في صحيح البخاري عنْ سَالِمٍ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ )أ.هـ
وفي رواية أخرى في البخاري
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه –قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ
وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ
وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ)أ.هـ
في بعض الفتن يحصل خير للأمة عظيم كالتعرف على صديقها من عدوها
وصادقها من كاذبها ومؤمنها من منافقها ،في بعض الفتن ترسخ معان
في الأمة لا ترسخها مئات الخطب والمحاضرات وهذا كله من
رحمة الله بعباده ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيها المؤمنون :
إن المؤمن الصادق الخائف من هذه الفتنة لابد وأن يدور في خلده
وفي ذهنه سؤال كبير سؤال ، هذا السؤال يتردد في نفس كل مؤمن يعيش
في زماننا هذا . زمنٍ كثرت فيه الفتن والبلايا والمحن والرزايا
إن هذا السؤال هو :
ما المخرج وما العاصم من هذه الفتن ؟
لقد أجاب عن هذا السؤال ربنا جل وعلا الرحيم بعباده الذي هو أرحم بهم
من أمهاتهم وأبائهم وأنفسهم سبحانه ما عبدناه حق عبادته وما قدرناه
حق قدره .
أجاب عن هذا السؤال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرؤوف
الرحيم بأمته .
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }
فهذا العواصم مستقاة ومستنبطة من كتاب ربنا ومن سنة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم .والرسول صلى الله عليه أوصى أمته عند حلول
الفتن أن تأخذ بأسباب النجاة ولا تظل مكتوفة الأيدي فقد أخرج البخاري
في صحيحه عن َأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ
مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا
تَسْتَشْرِفْهُ وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ )أ.هـ
ولعل في الإشارة ما يغني عن بسط العبارة فنذكر أهم العواصم من الفتن
نسأل الله أن يحمينا وإياكم من الفتن.
العاصم الأول: الدعاء
أيها المؤمنون: إن من أبرز مظاهر التوحيد وسلامة المعتقد أن يلجأ
المؤمن لربه في كل أموره ويعلق قلبه به وخاصَّة أوقات الفتن فلا منجي
ولا هادي ولا عاصم إلا الله فلا تلتفت لغيره يا عبد الله والزم وصية نبيك
محمد صلى الله عليه وسلم
،فقد جاء في صحيح مسلم عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن).
وعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ في دبر كل صلاة من عذاب جهنم
ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال .
العاصم الثاني : العلم .
أيها المسلمون : بالعلم يرفع الجهل وتستبين الأمة طريقها، بالعلم يرتفع
اللبس عنها عند اختلاط الأمور، وكثرة الشرور.
والعلم الذي نقصده ونعنيه هو : العلم الشرعي؛ فالعلماء: هم قادة الأمة
الذين يقودونها إلى بر الأمان، الذين يعلمون ما أنزل الله في كتابه
وما جاء عن رسوله؛ فيبلغونه للأمة لكي تنجو من الفتن وتسلم في أوقات
المحن . والعلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً
ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
وإن من العلم أن تقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته
وكيف واجهوا الفتن وتعاملوا معها فعليك بطريقتهم ومنهجهم وسلوكهم
ففيه النجاة
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }
وهنا نهمس في آذان الدعاة والمربين والمصلحين أن يجعلوا مرتكز
دعوتهم وأساس تربيتهم على العلم الشرعي المؤصل من الكتاب والسنة
وأن يحرصوا على تعويد الناشئة على حلق العلم والعكوف عليه ، فالعلم
نور وهاد عند اشتداد الفتن نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع
والعمل الصالح .
العاصم الثالث : العبادة والطاعة والعمل الصالح :
حينما تكثر الشهوات والملهيات وتنزين الدنيا للمؤمنين وتصرفهم
عما خلقوا لأجله ، فالمؤمن يهرع ويفزع إلى سيده ومولاه إلى الرحمن
الرحيم جل وعلا ، حينما يتملك قلبك الهم ، ويعلو محياك الغم ،
فعليك منهج نبيك فأتم .
جاء في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال:
(العبادة في الهرج وفي رواية في الفتنة كهجرة إلي).
يعني بذلك أن لها ميزة وفضل وأجر عظيم في أوقات الفتن.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله معلقاً على هذا الحديث:
وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهوائهم ولا يرجعون إلى دين
فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه
ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين
أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ،متبعاً لأوامره
مجتنباً لنواهيه "أ.هـ.
ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمرهرع وفزع
إلى الصلاة .
جاء في صحيح مسلم عن ْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه–
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ
مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ
بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)
فالرسول صلى الله عليه وسلم حث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة
عند حلول الفتن من صلاة وصيام وصدقة وبر وأداء للحقوق الواجبة
عليك وصلة الرحم وقراءة القرآن وغيرها من الأعمال
ثبتنا الله وإياك على الطاعة .
العاصم الرابع : تربية النفس على الإيمان بالله وباليوم الآخر:
فبالإيمان بالله: يحصل تعظيمه وتعظيم أمره ومراقبته في السر والعلن،
بالإيمان بالله يغرس في القلوب محبته ومرضاته وتقديمها على كل
المحاب، بالإيمان بالله يتعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى
فيظهر أثرها على السلوك والأخلاق ويظهر قوة الإيمان بها وقت الفتن
والشدائد ،. والإيمان باليوم الآخر واليقين الجازم بما أعد الله في ذلك
اليوم للمحسنين وما أعد للمسيئين تحصل العصمة بإذن الله من المغريات
والشهوات التي هي ظل زائل ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف حقيقة
الآخرة وما أعد الله للمؤمنين ، يقول جل وعلا:
{فَأَمَّا مَن طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. }
ويحصل اليقين بكثرة قراءة كتاب الله بتدبر وتمعن يقرأ ويتدبر ما أعد الله
لعباده المؤمنين الذين حرموا أنفسهم من الشهوات المحرمة خوفاً من الله
وقاموا بما أوجب الله عليه من العبادة طمعاً في الأجر من الله ويقرأ في
كتاب الله ما أعد الله لمن عصاه من الويل والثبور فيكون زاجراً له عن
الوقوع في الفتن ولقد كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
في تربيته لهم أن يربيهم ويعلق قلوبهم بما أعد الله لهم في الجنة حتى
في أحلك الظروف وأقسى الفتن فهذا صلى الله عليه وسلم يمر بآل ياسر
وهم يعذبون ويسحبون في رمضاء مكة فيقول لهم صلى الله عليه وسلم
(صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )
ولم يعلقهم ويعدهم بشيءٍ من حطام الدنيا.
العاصم الخامس : العمل بالعلم والدعوة إلى الله :
فإن العامل بدين الله الذي يبلغه وينشره الذي يأمر الناس بالمعروف
وينهاهم عن المنكر هو من أبعدهم عن الوقوع في الفتن الذي ينصح
للمسلمين ويدلهم على كل خير هو أكثر الناس بعداً عن الوقوع في الخلل
والزلل وأكثر الناس توفيقا وهداية وسداداً ،يقول الله جل وعلا :
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا }
، فحصل لمن عمل بما يوعظ به : الخيرية و الثبات والأجر العظيم
والهداية للصراط المستقيم.
العاصم السادس : الخوف من الفتن والفرار منها :
وعدم الاغترار بالنفس ، إن المؤمن الصادق المتواضع الذي يخاف على
نفسه ، ومن خاف نجا ومن أمن هلك.
فإذا رأيت فتنة مال أو نساء أوغيرها من الفتن فابتعد ، وإياك ومواطن
الفتن والريب ، حتى لا يصيبك منها شيء ، وقد علمنا سلفنا هذا المنهج
فكانوا يخافون منها ،
فهذا ابن أبي مليكة يقول :
" أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم
يخشى النفاق على نفسه "
أ.هـ ،
وهذا أبوهريرة رضي الله عنه يقول :
تكون فتنة لاينجي منها إلا دعاء كدعاء الغرق " أ.هـ
،أي الذي بلغ منه الخوف والوجل كخوف الذي أوشك على الغرق .
والخوف من الفتن المحمود ماكان باعثاً على العمل فهذا نبينا الكريم خاف
من الفتن فهرع إلى العمل الصالح فقد أخرج البخاري في صحيحه
عن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ
(اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ
فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ
أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ.)
كيف يعرف الإنسان أنه وقع في الفتنة أم لا ؟
أخيراً أختم هذا الحديث عن الفتن بهذا الأثر عن حذيفة رضي الله عنه –
الفقيه بالفتن وما ورد فيها- كما جاء عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي
، أنه قال : " إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؛ فلينظر فإن كان
رأى حلالاً كان يراه حراماً فقد أصابته الفتنة ، وإن كان يرى حراماً كان
يرى حلالاً فقد أصابته الفتنة"أ.هـ
فمن الفتن التي لا يعلمها كثير من الناس التقلب في الدين والرأي على
غير هدى وبصيرة فمرة يؤيد الحق وأهله ومرة يؤيد الباطل وأهل
والمهتدي من هداه الله والمعصوم من عصمه الله.
ناصر بن يحيى الحنيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق