السبت، 17 يناير 2015

الحكم البليغة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع



الحكم البليغة
في خطب النبي صلى الله عليه وسلم  في حجة الوداع


سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد
مقدمة:
لا شكَّ أن ما اشتملت عليه خطبُ النبي- صلى الله عليه وسلم- من: العلومِ،
والفوائدِ الساميةِ، والقواعدِ الهامةِ، والوصايا النافعةِ،
ما يَنبغِي لكلِّ مسلمٍ معرفتُها والعملُ بها؛
 فقد قرَّر فيها النبي- صلى الله عليه وسلم- قواعدَ الإسلامِ،
وهَدَم فيها قواعدَ الشركِ والجاهلية،
وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقتِ المِلَلُ على تحريمِها،
وهي: الدماءُ، والأموالُ، والأعراضُ.
ووضع فيها أمورَ الجاهليةِ تحت قدميه، ووضَع فيها رِبَا الجاهليةِ كلَّه،
وأبطله، وأوصاهم بالنساءِ خيرًا، وذكر الحقَّ الذي لهن وعليهن،
وأن الواجب لهن: الرزق، والكسوة بالمعروف- ولم يقدِّر ذلك بتقديرٍ-
وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدخَلن إلى بيوتِهن مَن يكرهه أزواجُهن،
وأوصى الأمَّة فيها بالاعتصام بكتاب الله،
وأخبر أنهم لن يَضِلُّوا ما داموا مُعتَصمِين به،
ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون، وبماذا يشهَدون،
فقالوا: نشهَد أنك بلَّغت، وأدَّيت، ونَصَحت، فرفع أصبعه إلى السماء،
واستشهد الله عليهم ثلاث مرات، وأمرهم أن يبلِّغ شاهدُهم غائبَهم،
كما خطب الناس يوم النَّحر خطبةً بليغةً، أعلمَهم فيها بحرمةِ يوم النحر،
وفضلِه عند الله، وحرمةِ مكة على جميع البلاد،
وأمر بأخذ مناسكهم عنه، وقال :
لعلي لا أَحُجُّ بعد عامي هذا وعلَّمهم مناسكهم.
ونَهَى الناسَ أن يرجِعوا بعده كفارًا، يضرب بعضُهم رقابَ بعضٍ،
وأمر بالتبليغِ، وأخبر أنه رُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامعٍ.
وقال في خطبته تلك:

( لا يَجْنِي جانٍ إلا على نفسه )
 وقال:

(إن الشيطان أَيِسَ أن يُعبد ببلدِكم،ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تَحتَقِرون من 

أعمالكم، فيَرضَى بها).

وقال:
(اعبدوا ربَّكم، وصلُّوا خَمْسَكم، وصوموا شهرَكم،وأطيعوا أُمَراءَكم؛ تَدْخُلوا جنَّة ربِّكم)

 وودَّع حينئذٍ الناسَ، فقالوا: حجَّة الوداع.
كما خطبهم- صلى الله عليه وسلم- أيضًا أوسطَ أيامِ التشريقِ خطبةً عظيمةً
بليغةً، بيَّن فيها حرمةَ ذلك اليومِ والشهرِ والبلدِ، وبيَّن حرمةَ الدَّمِ والعِرضِ،
التي اتفقتِ المِلَل على حُرمتِها، وحذَّر فيها من الظلم والتعدِّي على المال،
وأنه لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ بغيرِ طيبِ نفسٍ منه، وبيَّن-
في خطبتِه تلك-أن الزمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خلَق اللهُ السمواتِ والأرض،
وأن ربَّهم واحدٌ، وأباهم واحدٌ، وأنه لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ،
ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ، ولا لأحمرَ على أسودَ،
 إلا بالتَّقوى.

أولاً : خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة .
وهذا نصُّ خُطبته- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة؛
كما في حديث جابرٍ عند مسلم، وأبي داود وغيرهما،
رَوَى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين،
عن أبيه، عن جابرٍ، في حديث حجة الوداع، قال:
حتى إذا زالت الشمس- يعني: يومَ عرفةَ- أمر بالقَصْوَاء فرُحِلَت له،
فأتى بطن الوادي، فخطب الناسَ، وقال:

( إنَّ دماءَكم وأموالَم حرامٌ عليكم . كحرمةِ يومِكم هذا .في شهرِكم هذا . في بلدِكم هذا .
ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهلية ِتحت قدميَّ موضوعٌ . ودماءُ الجاهليةِ موضوعةٌ .

وإنَّ أولَ دمٍ أضعُ من دمائِنا دمُ ابن ِربيعةَ بنِ الحارثِ كان مُسترضَعًا في بني سعدٍ 

فقتلَتْه هُذيلٌ .وربا الجاهليةِ موضوعٌ . وأولُ ربًا أضعُ رِبانا

ربا عباسٍ بنِ عبدِالمطلبِ فإنه موضوعٌ كلُّه فاتقوا اللهَ في النِّساءِ

فإنكم أخذتموهن بأمانِ اللهِ واستحللتُم فروجهنَّ بكلمةِ اللهِ

ولكم عليهنَّ أن لا يُوطئنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه

فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ

ولهنَّ عليكم رزقُهن وكسوتُهنَّ بالمعروفِ

وقد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتُم به كتابَ اللهِ

وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون ؟

قالوا : نشهد أنك قد بلغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ

 فقال بإصبعِه السبَّابةِ ، يرفعُها إلى السماءِ وينكتُها إلى الناسِ اللهمَّ !

اشهدْ اللهمَّ ! اشهد ثلاث مرات  (      
 الحديثَ.

حرمة الأموال واحترام الملكية الفردية :
قوله- صلى الله عليه وسلم- :

( إن دماءَكم وأموالكم حرامٌ عليكم، كحرمةِ يومِكم هذا،في شهركم هذا، في بلدكم هذا )

قال النوويُّ:

[ معناه متأكِّدة التحريمُ شديدتُه، وفي هذا دليلٌ لضرب الأمثال،وإلحاق النظير بالنظير قياسًا ] اهـ.
قلتُ: وفيه دليلٌ على احترامِ الأموال كاحترامِ الدماء والأعراض؛
حيث قَرَنها النبي- صلى الله عليه وسلم- بهما،
وكما في الحديث الآخر:

( كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه، ومالُه، وعِرضُه)

فهذا يؤكِّد حرمةَ المالِ، ويُنزِّلها منزلةَ النفس سواءً بسواء،
فلا تُنتَهك، ولا تُستَبدل بأيِّ وسيلةٍ من الوسائل الأخرى التي لم يأذَن بها الله.
وتأكيدًا لحرمة المِلكية الفردية، وتنزيلها منزلةَ النفس والعِرْض؛
رأينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر
يَحُثُّ على الاستشهاد في سبيلِها، والدفاع عنها،
ويعتبر ذلك شهادةً في سبيل الله، فيقول- صلى الله عليه وسلم-:

( مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيدٌ، ومَن قُتِل دون عِرْضِه فهو شهيدٌ )

 فيؤكِّد حرمةَ المِلكية الفردية مرةً أخرى، ويَزِيدها صيانةً واحترامًا،
ويقرِّر مساواتَها للنفسِ والعِرْضِ، ويرغِّب الإنسان على أن يضحِّي بنفسه
 في سبيلها، إذا أراد إنسانٌ انتهاكَ حرمتِها والاعتداءَ عليها،
ويكون بذلك في عداد الشهداء الأبرار.
وهذا واضحٌ في بطلانِ الاشتراكيةِ المَزعُومة أنها من الإسلام،
والإسلام منها براءٌ؛ فالإسلام احترَم الملكيةَ الفردية أبلغَ احترامٍ،
حيث أَمَر بقطعِ يدِ السَّارِق، متى انتَهَك حرمةَ مالِ الغيرِ بغيرِ حقٍّ ولا شبهةٍ،
كما هو مقرَّر في كتب الأحكام، وجميع الأحاديث الواردة في هذا الصدَد
تُحَافِظ على حرمةِ الملكية الفرديةِ، وصيانتها من الاقتطاع، أو الانتهاك،
فيقول- عليه الصلاة والسلام- في الحديث الثابت في الصحيحين:

 ( إنما أنا بشرٌ، أقضِي بينكم على نحوِ ما أسمَع، ولعلَّ بعضَكم أَلْحَنُ بحجَّته من 

بعضٍ، فمَن قضيتُ له بحقِّ أخيه، فإنما أقتَطِع له قطعةً من النارِ، فلْيأخذْها أو لِيَذَرْها )

وفي الصحيحين أيضًا:

(مَن حَلَف على يمينٍ فاجرةٍ؛ ليَقتَطِع بها مالَ امرئٍ مسلمٍ؛لَقِي الله،وهو عليه غضبان)

فيضع- صلى الله عليه وسلم- شتَّى الاحتياطات اللازمة
لحماية المِلكية الفردية، وصيانتها من أن تُقتَطَع بمختَلف الطرق،
أو يتصل إليها بشتى الأسباب المبنيَّة على ظاهر الأمر دون باطنه،
فيجعل حُكمه الصادر منه- صلى الله عليه وسلم- على نحوٍ مما يسمَع،
غير مبيحٍ لانتهاكِ حرمةِ ذلك المال باطنًا،
فهو ما يزالُ حرامًا على مَن قضى له به، بل هو كقطعةٍ من النار.
كما بيَّن أن اليمينَ الفاجرةَ لاقتطاع مال امرئٍ مسلم سببٌ لغضبِ الله وعقابه.
وفي قوله- صلى الله عليه وسلم- :

( صَلُّوا على صاحبِكم )

 دلالةٌ واضحةٌ على احترامِ الملكيةِ الفرديةِ؛ حيث امتنع من الصلاة عليه،
لِمَا تحمَّله في ذمتِه من مالِ الغيرِ، فكيف- بعد هذا-
يقال بالاشتراكية في الأموال ؟ والله- سبحانه وتعالى-
فَاضَل بين الناس في عقولِهم وآجالِهم، فكذلك فَاضَل بين أرزاقِهم؛
قال تعالى- :

{ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ }
[ النحل: 71 ]
وقال تعالى :

{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
[ الزخرف: 32 ].
وامتناع النبي- صلى الله عليه وسلم- من الصلاة على المَدِين، بقوله:
( صَلُّوا على صاحبِكم )

أوضحُ بيانٍ، وأدلُّ دليلٍ على احترامِ أموال الناس،
 وأن لا اشتراكيةَ لأحدٍ في مالِ الغيرِ.
وفيما تقدَّم من الأحاديث، وما دلَّ عليه القرآن من إضافة الأموالِ إلى أربابِها-
دليلٌ على مِلكيتِهم لها، واختصاصهم بها، وأن لا اشتراكيةَ لأحدٍ فيها،
قال تعالى :
{ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ }
[ البقرة: 279 ]

 وقال تعالى :
{ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ }
[ النساء: 5 ]

وقال تعالى :
{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }
[ النساء: 6 ].

فبهذا يتَّضح بطلانُ هذه الاشتراكيةِ التي دعا إليها الكثيرون من الناس،
وزَعَموا أنها من الدِّين، وسمَّوها بالاشتراكية الإسلامية تمويهًا وتضليلاً.
والمساواة بين الناس في المال مما لا سبيل إليه؛
لأنها تمردٌ على النظام السماوي، وخلافٌ لسنة الله،
قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ 

وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا }
[ النساء: 135 ]، الآيةَ.
فالآيةُ تدلُّ بعمومِها على مراعاةِ العدل، والمحافظة عليه في: النفس،
والأقارب، والأغنياء، والفقراء؛ فلا تَجُوز الشهادةُ على الغنيِّ للفقير لضعفِه،
رحمةً به وإحسانًا إليه، ولا على الغني لقوته، بل أمر- تعالى- بالعدلِ،
واتِّباع شرعِه في ذلك، فيُشْهَد للغنيِّ على الفقير، وللفقير على الغني،
مراعيًا في ذلك الحقَّ والعدل، مؤدِّيًا للشهادة الحقة،
فإذا كان الله نهى عن الشهادة للفقير لفقرِه،
فكيف بابتزازِ أموال الأغنياء بحجَّة إعطائها الفقراء، ومساواتِهم في ذلك،
فهذا خلافُ العدل المأمورِ به في هذه الآية، وخلافٌ لشرعِ الله ودينِه
 الذي فَاضَل بين الناس، بأن جعل هذا غنيًّا، وهذا فقيرًا، وهذا شريفًا،
وهذا وضيعًا، وهذا مَلِكًا، وهذا صُعلوكًا؛ فالله أعلم بمصالح خَلْقِه،
وهو الغاية في العدل، فَاوَت بين الناس،
وفَاضَل بينهم بما تقتضيه حِكمته وإرادته.
وفي القول بالاشتراكية إبطالٌ لسننِ الله في الزكاة، والميراث، والنفقات؛
لأن القول بها يؤدِّي إلى: عدمِ وجودِ مُزَكٍّ، ووجود أهلٍ لها،
وعدمِ وجودِ وارثٍ وموروثٍ، وعدمِ وجودِ مُنفِق ومُنفَق عليه؛
وذلك لاشتراكهم مع غيرهم في المال، وهذا خلافُ سنَّة الله،
وخلافُ شرعِه ودينه، وخلافُ نظامِ هذه الحياة.
المساواةُ بين العباد إنما تكون في أمرٍ ثابتٍ على التأبيدِ،
كالتشريعات الإلهية التي يَستوِي فيها الشريفُ والوضيعُ، والغني والفقير؛
كالوضوء، وغُسل الجنابة، وكالصلاة والصوم، إلى غير ذلك،
دون الأمورِ التي قَضَت حكمةُ الله باختلافِ الناس فيها؛
فهي غيرُ ثابتةٍ على نهج واحدٍ على الدوام؛ كالمال، بل جعل هذا غنيًّا،
وهذا فقيرًا، وربما افتقر الغنيُّ، واغتنى الفقير.
فالمال ليس بالأمرِ الثابتِ الذي يَستَوِي فيه كلُّ الناس؛
فهو أشبهُ بالمواهِب والعقول التي لا يأتِي فيها التساوي بين الناس؛
نتيجةً لتفاوتهم فيها تفاوتًا يَلِيق بسنَّة الحياة.
ومما يَزِيد الأمرَ وضوحًا أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم –
كان لا يؤمِّم مالَ أحدٍ، ولا يعادِل في الأموال بين الأغنياء والفقراء
في حالة الرَّخَاء؛ فقد كان في الصُّفَّة في مسجدِه الشريف فقراءُ
لا يَجِدون القُوتَ إلا من صدقات الناس عليهم،
وفي المدينة كثيرٌ من الأغنياء، وما رأيناه أمَّم لهم مالَ أحدٍ من أغنياءِ
المدينةِ، ولا عادَلَ بينهم وبين الأغنياء في أموالٍ، وهم أحوجُ
ما يكون إلى ذلك، وأيضًا عندما أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم –
تجهيزَ جيشِ العُسْرَة في غزوة تَبُوكٍ - رأيناه يَحُثُّ الأغنياء،
ويرغِّبهم على تجهيزِه بما يستطيعون، وكيفما يستطيعون،
وتَبَارَوا يَستَبِقون للتجهيزِ بما يَقْدِرون عليه؛ فاختلفت مساعدتُهم
بحسَب اقتدارِهم الماديِّ، ورغباتهم الجامِحة في الخير، فلو كان مِلْكًا للأمةِ،
ولم يكن مِلْكًا لملاَّكه - الذين اكتسبوه بطرقِ الكسب المعروفة
في التشريع الإسلامي - لانتزعه من أيدي الأغنياء،
وجهَّز به الجيشَ الغازِيَ في أحرجِ ظروفٍ عَرَفتها تلك الغزوة.
ولم يكن في حاجةٍ إلى ترغيبِهم، وحثِّهم في المساعدة على التجهيز.
ورأيناه في غنائمِ هَوَازن التي قسَّمها بين الغانِمين، ثم عاد إليه أهلُها مسلمينَ،
وقد حازَ كلُّ غانمٍ نصيبَه، ونال حصَّته من الغُنْمِ بالقِسمة
من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قام خطيبًا في الغانِمين،
وقال لهم:
( أما بعدُ: فإن إخوانَكم هؤلاءِ قد جاؤوا تَائِبين، وإني قد رأيتُ أن أردَّ عليهم سَبْيَهم، 

فمَن أحبَّ أن يُطَيِّبَ ذلك فليَفْعَل، ومَن أحبَّ منكم أن يكونَ على حظِّه حتى نُعطِيه إيَّاه

من أوَّل مالٍ يَفِيء الله علينا فقال الناس: قد طيَّبْنَا ذلك لهم يا رسول الله، فقال لهم: إنا 

لا نَدْرِي مَن أَذِن منكم ممن لم يأذَن، فارجِعوا حتى يرفعَ إلينا عرفاؤكم أمرَكم )

فرجع الناس فكلَّمهم عُرَفاؤُهم، ثم عادوا إلى رسول الله يخبرونه
أنهم قد طيَّبُوا وأذِنوا.



وفيما تقدَّم من الآيات والأحاديث دلالةٌ واضحةٌ على بطلانِ الاشتراكيةِ،
وأنها ليست من الإسلام في شيءٍ، بل أوَّلُ مَن قال بها،
ودعا إليها "مَزْدَك" أحدُ رجالِ فارسَ، دعا إلى الاشتراكية في المال
والنساء؛ فتَبِعه على قوله كثيرٌ من الفقراء ورَعَاع الناس،
فوافقه الملك "قُبَاذ"، ولكن ابنه "أنوشِروان" بعد أن تولَّى الملكَ بعد أبيه
دعا بمَزْدَك فقتله وقتل أصحابه، وأبطل الاشتراكية،
واحترم الأموالَ كما احترم الدِّماء والأعراض،
وهذا الملِك الفارسي الذي أبطل الاشتراكية
فلا عبرةَ ببعضِ المنتسبين إلى العِلم القائلين بالاشتراكية في المال؛
 فهؤلاء وأمثالُهم هم آلةُ السياسةِ، وأعوان الرئاسة، وهم كثيرٌ،
لا كثرهم الله .
قوله:
( كحرمةِ يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا )
 أي: أنه شبَّه تحريم الدمِ والمالِ والعِرضِ، بما هو مستقِرٌّ تحريمُه
 في نفوسِهم من ذلك اليومِ والشهرِ والبلدِ.
قال الحافظ:
[فيه تأكيدُ التحريمِ وتغليظُه بأبلغِ ممكنٍ من تَكرارٍ ونحوه، وفيه مشروعيةُ ضربِ المَثَل، وإلحاق النظير بالنظير؛ ليكونَ أوضحَ للسامعِ، وإنما شبَّه حرمةَ الدمِ والعِرْض والمال، بحرمةِ اليوم والشهر والبلد؛لأن المخاطَبين بذلك كانوا لا يَرَون تلك الأشياء، ولا يَرَون هَتْكَ حرمتِها ، ويَعِيبُون على مَن فعل ذلك أشدَّ العيب، وإنما قدَّم السؤالَ عنها تَذكارًا لحرمتٍها، وتقريرًا لِما ثَبَت في نفوسهم؛ ليبني عليه ما أراد تقريرَه على سبيل التأكيد ]
وقوله:

( ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهليةِ تحت قدميَّ موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعةٌ، وإن 

أوَّل دمٍ أضعُ دمُ ابن ربيعة بن الحارث كان مسترْضِعًا في بني سعْد، فقتَلَتْه هُذَيل،ورِبَا 

الجاهليةِ موضوعٌ،وأوَّل رِبًا أضعُ رِبَا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوعٌ كلُّه )

في هذه الجملة إبطالُ أفعالِ الجاهلية، وبيوعِها التي لم يتصل بها قبضٌ،
وأنه لا قِصاص في قتلها، وأن الإمام وغيرَه - ممن يأمر بالمعروف
 أو ينهى عن منكر - ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهلِه؛ فهو أقربُ إلى قَبُول قولِه،
وإلى طيب نفسِ مَن قرُب عهدُه بالإسلام.
وأما قوله:
( تحت قدميَّ )

 فإشارةٌ إلى إبطاله.

وفي قوله:

( ألا كلُّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوعٌ )

إضافته إلى الجاهلية إضافةُ ذمٍّ وعيبٍ؛ أي: كلُّ ما كان من أمرِ الجاهلية:
كفخرِها بالأحساب، وطعنِها في الأنساب، وتعصُّبها المذموم،
 كلُّه موضوعٌ باطلٌ؛ كما أشار إليه بقوله:
( تحت قدميَّ موضوعٌ )

وقوله:
( ودماءُ الجاهلية موضوعةٌ )
 أي: لا قِصاصَ فما دونه مما كان حاصلاً في الجاهلية.

حرمة الربا وأضراره :

وقوله :
( وربَا الجاهلية موضوعة )
الربا محرَّم بالكتاب والسنَّة والإجماع، ومفاسده كثيرة جدًّا،
نسأل الله السلامة، وقد قال بعض العلماء:
[ إن أَكَلةَ الرِّبا مجرَّب لهم سوءُ الخاتمةِ، والعياذ بالله ]
ومع هذا قد فشا الرِّبا في مجتمعنا فُشُوًّا شنيعًا ذريعًا، يُنذِر بضياع الثروة،
ومحوِ البركة، وسقوط المحبة، وانعدام التعاطف والتراحم بين الناس،
وآكلوا الرِّبا لا يَقُومُون يومَ القيامةِ،
أو لا يَقُومُون في الدنيا إلا كما يَقُومُ الذي يتخبَّطه الشيطان –
 وهو المصروع - من المَسِّ، وهو الجنون، وهذا مُشاهَد فيهم في الدنيا؛
إذ هم - رغم وفرةِ أموالهم، ومزيد ثرائهم - لا يَزَالُون في هَمٍّ دائمٍ،
وفكر مستمِرٍّ، وقد حرَمهم الله - تعالى - من اللذائذ رغم توافُرِ أسبابها،
ومن النعم رغم وجود مقوِّماتها، وقد قال هؤلاءِ مثلَ ما قال الأوَّلون:

{ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا }
[ البقرة: 275 ]
 وساروا على نهجِهم، واتَّبعوا طريقتهم، ثم هو مخرِب البيوت،
ومُزِيل الرحمة من القلوب، ومولِّد العداوة بين الأغنياء والفقراء؛
فإنه يُضْعِف التعاطف والتراحمَ، بل لا همَّ للأغنياء إلا ابتزازُ أموال الفقراء،
بكونهم كالذئاب، كلُّ واحدٍ ينتظر الفرصة التي تمكِّنه من افتراس الآخر
وأكْلِه، فحلَّت القسوةُ محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموتُ جوعًا في البلاد
التي يتعامل أهلُها بالرِّبا، ولا يجد مَن يجُود عليه بما يَسُدُّ رَمَقَه،
فمُنِيت تلك البلاد بالانهيار الاقتصادي، والركود التجاري والبطالة؛
لذلك جاء الإسلام بتحريمِ التعامل بالربا، ليكون كلُّ واحدٍ من المسلمين
عونًا لأخيه، لا سيما عند شدَّة الحاجة إليه،
والله لا يشرَع للناسِ الأحكامَ بحسَب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين،
ولكن بحسَب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة وهو أعلمُ بمصالح عباده.
ويتضمَّن:
1- مراعاة حقِّ النساء، والوصيَّة بهنَّ .
2- التمسُّك بالكتاب والسُّنة.
3- القرآن منهجٌ لِمَن تَمسَّك به.

وقوله  صلَّى الله عليه وسلَّم :

( وأوَّل ربًا أضعُ ربَا العباس بن عبدالمطلب؛ فإنه موضوعٌ كلُّه )
هذا نظيرُ وَضْعه لدماء الجاهليَّة،
فأوَّل دَمٍ وضَعه من دمائهم دَمُ ابن ربيعة بن الحارث،
فالآمِر والناهي يَنْبَغي له أن يبدأَ بنفسه وبأهلِه؛ ليكون قُدوةً حَسَنة لغيره.
والرِّبا إذا وُضِع يبقى رأسُ المال لمالكه؛
كما في قوله  تعالى :
{ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ }
[ البقرة: 279 ].
- مراعاة حق النساء والوصية بهن :
وقوله  صلَّى الله عليه وسلَّم :

( فاتَّقوا الله في النساء؛ فإنَّكم أخذتموهُنَّ بأمانةِ الله )
 فيه الحثُّ على مراعاةِ حقِّ النساء، والوصية بهنَّ، ومعاشرتهنَّ بالمعروف؛
كما قال  تعالى :
{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
[ النساء: 19 ].
قال ابنُ عطيَّة:
وإلى معنى الآية يُنظَرُ قول النبي  صلَّى الله عليه وسلَّم :
( فاسْتَمْتِع بها وفيها عِوَجٌ )
 أي: لا يَكُنْ منك سوءُ عِشْرةٍ مع اعْوِجَاجها، فعنها تَنْشأ المخالَفة،
وبها يقعُ الشِّقاق، وهو سببُ الخُلع

إذ إنَّ مُداراةَ النِّساء والغَضَّ عمَّا يَحصل منهنَّ - من الاعوجاج والمخالفة
سببٌ للاستمتاعِ بهنَّ، وبقاءِ المعاشرة معهنَّ؛
قال الترمذي في جامعه: باب ما جاء في مُداراة النساء،
وذكَر حديثَ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم :
( إنَّ المرأة كالضِّلَع، إن ذهبْتَ تُقِيمُها، كسَرتها،وإن ترَكتها، اسْتَمْتَعْتَ بها على عِوَجٍ )

فعلى الرجل مُعاشَرُتها بالمعروف والإحسان إليها،
والتسامُح فيما يَصْدُر منها من خطأٍ ومخالفة، وعليه أن يَصونَها
ويَحفظَها من مخالطة الرجال الأجانب،
وألاَّ يَدَعَها تَجُوب الشوارعَ ومجتمعات الرجال؛ بحيث تكون مَطمعًا للفُسَّاق،
وموضِعًا للسُّخرية، بل عليها ملازمَة بيتها، وتدبيرُ شؤونِها،
والقيام على أطفالها، فهذا مما ينبغي للمرأة القيامُ به،
وعلى الرجل أمرُها بذلك.

قوله:
( واسْتَحْلَلْتُم فُروجَهنَّ بكلمةِ الله ).

تنوَّعت عبارات العلماء في ذلك، فقيل: المراد بكلمة الله هو كلمة الإخلاص:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ إذ إنَّ المسلمة لا تُباح لغير المسلم،
وقيل: إنَّ كلمة الله هي قوله  تعالى :
{ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
[ البقرة: 229 ]
وقيل: هي قوله  تعالى :
 { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }
[ النساء: 3 ].
وهذه الأقوال متلازِمة، فالرجل إذا تزوَّج المرأة،
فعليه أن يُمسكَها بالمعروف إن رضِيَها والْتَأَمَت حاله معها،
وإلاَّ فيُسَرِّحها بإحسانٍ؛ عملاً بالآية الكريمة،
ثم هي لا تَحِلُّ له؛ حتى يكون من أهل شهادة أنْ لا إله إلا الله،
وأنَّ محمدًا رسول الله، فالمسلمة لا تُباح لغير المسلم، وقد نكَحها امتثالاً
لقول الله  تعالى :
{ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }
[ النساء:  3 ].
قوله:

{ولكم عليهنَّ ألاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونه،فإن فَعَلْنَ ذلك، فاضْرِبُوهنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّح}
 أي: لا يَأْذَنَّ لأحدٍ تَكرَهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم؛
سواءٌ كان المأذونُ له رجلاً أجنبيًّا أو امرأةً، أو أحدًا من محارِم الزوجة،
فالنهي يَتناول جميعَ ذلك، وهذا حُكْم المسألة عند الفقهاء:
إنها لا يَحِلُّ لها أن تَأْذَنَ لرجلٍ أو امرأة، ولا مَحرمٍ، ولا غيره –
في دخول منزل الزوج، إلاَّ مَن عَلِمت أو ظنَّت أنَّ الزوج لا يَكرهه؛
لأنَّ الأصل تحريمُ دخول منزل الإنسان؛ حتى يُوجَد الإذنُ في ذلك منه،
أو ممن أَذِن له في الإذن في ذلك، أو عُرِفَ رضاه باطِّراد العُرف
 بذلك ونحوه، ومتى حصَل الشكُّ في الرضا، ولَم يترجَّح شيءٌ،
ولا وُجِدت قرينةٌ - لا يَحِلُّ الدخول ولا الإذن، والله أعلم.
وقوله:
{ واضْرِبوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ }
 أي: غير شاقٍّ، ولا مُؤثِّرٍ، وفيه دليلٌ على جواز ضَرْب الرجل امرأتَه؛
للتأديب والمصلحة.
قوله:
{ ولهنَّ عليكم رِزقُهنَّ، وكِسوتهنَّ بالمعروف }
فيه وجوب نفقة الزوجة وكِسوتها بالمعروف،
وهو ثابتٌ بالكتاب والسُّنة والإجماع، ومثله إعدادُ مسكنٍ لها، مُلائمٍ لمثلها.


 لزوم التمسك بالكتاب والسنة :
قوله:

( وقد ترَكْتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده إن اعْتَصَمْتُم به، كتابَ الله )

( ترَكتُ فيكم )
 أي: فيما بينكم.

( ما لن تَضِلُّوا بعده )
 أي: إن تمسَّكتُم به واعْتَصَمْتُم بما تضمَّنه من الأوامر والنواهي،
واعْتَقَدتُم ما تضمَّنه من العقائد الحقَّة؛ إذ هو كتاب عزيزٌ،
لا يَأْتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميدٍ.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -:

[ ومن أعظمِ ما أنعَم الله به على المسلمين، اعتصامُهم بالكتاب والسُّنة،
فكان من الأصول المُتَّفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ،
أنه لا يُقبل من أحدٍ قطُّ أن يُعارِض القرآن؛ لا برأيه ولا ذَوْقه،
ولا مَعقوله ولا قياسه، ولا وَجْده؛ فقد ثبَت - بالبراهين القطعيَّات
والآيات البيِّنات - أنَّ الرسول جاء بالهُدى ودينِ الحقِّ،
وأنَّ القرآن يَهدي للتي هي أقوم، فيه نبَأُ مَن قبلهم، وخبرُ ما بعدهم،
وحُكْم ما بينهم، هو الفصل ليس بالهَزْل، مَن ترَكه من جبَّار، قصَمه الله،
ومَن ابتَغى الهدى في غيره، أضلَّه الله، هو حبلُ الله المتين،
وهو الذِّكر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، وهو الذي لا تَزيغ به الأهواء،
 ولا تَلتبس به الألْسُن، فلا يَستطيع أن يُزِيغَه إلى هواه، ولا يُحَرِّف به لسانه،
ولا يَخلَق عن كَثرة التَّرداد، فإذا رُدِّد مرَّة، لَم يَخْلَق،
ولَم يُمَلَّ كغيره من الكلام، ولا تَنقضي عجائبُه، ولا تَشبع منه العلماء،
مَن قال به صدَق، ومَن عَمِل به أُجِر، ومَن حَكَم به عدَل، ومَن دعا إليه،
هُدِي إلى صراط مستقيمٍ ]
اهـ.
وما ضَعُف المسلمون وزَالَ ما كان لهم من المُلك الواسع،
إلاَّ بإعراضهم عن هداية القرآن، ولا يعود إليهم شيءٌ -مما فقَدوا من العِزَّة
والسيادة والكرامة- إلاَّ بالرجوع إلى هدايته، والاعتصام بحبله.
واقتصَر الرسول في خُطبته على ذِكر الكتاب دون ذِكر السُّنة؛
لاشتماله على الأمرِ بالعمل بالسِنة
لقوله تعالى:
{ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ }
[ آل عمران: 32 ]،

وقوله:
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }
[ الحشر: 7 ]

ولقوله:
 { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
[ الأحزاب: 21 ].
والاعتصام به سببٌ لصلاح الدنيا والآخرة، فإنَّ مَن اعتَصَم به
وعَمِل بأوامره ونواهيه - لن يضلَّ عن الصراط القويم،
ولنَذكر ما قاله الإمام القرطبي في تفسيره من أنَّ القرآن مانعٌ
 لِمَن تمسَّك به من شرور الأعداء، وكَيْد أهل الجَوْر والظلم.
قال - رحمه الله تعالى - على قوله ­سبحانه:
 { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا }

وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت:
لَمَّا نزَلت سورة
 { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }
أقبَلَت العَوراء أُمُّ جميل بنت حربٍ، ولها وَلْوَلة، وفي يدها فِهرٌ، وهي تقول:
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا
والنبي صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في المسجد،
ومعه أبو بكر -رضي الله عنه- فلمَّا رآها أبو بكر، قال:
يا رسول الله، لقد أقبَلَتْ وأنا أخاف أن تَراك: قال رسول الله:
( إنها لن تَراني )
وقرَأ قرآنًا، فاعْتَصَم به كما قال، وقرأ:
{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا }
 [ الإسراء: 45 ].
فوقَفتْ على أبي بكر -رضي الله عنه- ولَم تَرَ رسولَ الله، فقالت:
يا أبا بكر، أُخْبِرتُ أنَّ صاحبَك هجَاني، فقال: لا وربِّ هذا البيت،
ما هجاكِ، قال: فولَّتْ، وهي تقول: قد عَلِمت قريشٌ أني ابنة سيِّدها.
إلى أن قال: وقال كعب -رضي الله عنه- في هذه الآية:
كان النبي  يَستتر من المشركين بثلاثِ آيات: الآية التي في الكهف:
{ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا }

والآية التي في النحل:
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }

والآية التي في الجاثية:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى 

بَصَرِهِ غِشَاوَةً }

فكان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا قرَأَهُنَّ يَستتر من المشركين.
قال كعب - رضي الله عنه -: فحدَّثْتُ بهنَّ رجلاً من أهل الشام،
فأتى أرضَ الروم، فأقام بها زمانًا، ثم خرَج هاربًا، فخرَجوا في طلبه،
فقرَأ بهنَّ، فصاروا يكونون معه على طريقه، ولا يُبصرِونه.

فإنه جاء في السيرة في هجرة النبي ومقام علي -رضي الله عنه- في فراشه،
 قال: وخرَج رسول الله فأخَذ حَفْنة من ترابٍ في يده،
وأخَذ الله - عزَّ وجلَّ - على أبصارهم عنه، فلا يَرونه،
فجَعَل يَنثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات:
{ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ }
إلى قوله:
{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }

حتى فرَغ رسول الله  من هذه الآيات، ولَم يبقَ منهم رجلٌ إلاَّ وقد وَضَع
على رأسه ترابًا، ثم انصرَف إلى حيث أراد أن يذهبَ،
ولقد اتَّفق لي ببلادنا - الأندلس - بحصن منثورٍ من أعمال قرطبة مثلُ هذا؛
وذلك أنى هرَبتُ أمام العدوِّ، وانْحَزتُ إلى ناحية عنه،
فلم أَلْبَث أن خرَج في طلبي فارسان، وأنا في فضاءٍ من الأرض،
قاعدٌ ليس يَسترني عنهما شيءٌ، وأنا أقرأُ أوَّل سورة يس،
وغير ذلك من القرآن، فعَبَرَا عليَّ، ثم رجَعا من حيث جاءَا،
وأحدهما يقول للآخر: هذا "دِيَبْلَهُ" يَعْنيان شيطانًا،
وأعمَى الله - عزَّ وجلَّ - أبصارَهم،
فلم يَرَوني، والحمد لله حمدًا كثيرًا على ذلك".
ويتضمَّن:
1- حِفظ الله ووقايته لِمَن اعتصَم بكتابه العزيز.
2- دليل إثبات عُلُوِّ الله على عرشه.
3- الحِكَم التي اشْتَمَلت عليها خُطبته يوم النَّحر.

فانظر إلى حِفظ الله ووقايته لِمَن اعتَصَم بكتابه العزيز؛
حيث وقاهُم وحَفِظهم من بَأْس الصائلين، وكَيْد الكائدين،
ولَم يتمكَّن أعداؤهم من الوصول إليهم، بل جعَل على أبصارهم غشاوةً تَمنعهم من رؤية مَن قصَدوه بسوءٍ وشرٍّ.
هذا الإمام القرطبي يَحكي عن نفسه بطلبِ فارسينِ له،
وهو في فضاءٍ من الأرض، ليس يَستُره عنهما شيءٌ؛ لا شجرٌ، ولا جبلٌ،
ولا غيرُهما، على الرغم من قُربهما منه ورؤيته لهما، وسَماعه لكلامهما،
ومع هذا لَم يتمكَّنا من رؤيته، وإيقاع ضررٍ به، بل أعمى اللهُ أبصارَهما،
فرَجعا خائبين، وحَفِظ اللهُ الإمامَ القرطبيَّ لَمَّا الْتَجَأ إلى الله،
واعتصَم بكتابه العزيز.

قوله:
( وأنتم تُسْأَلون عني، فماذا أنتم قائلون؟ )
 أي: مسؤولون عن تبليغي وعدمه، فماذا أنتم قائلون في حقِّي؟
قال  تعالى :
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }

وقولهم: "قالوا: نَشْهد أنَّك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ"؛ أي: بلَّغتَ ما أُرْسِلتَ به
 إلى الناس كافَّة، وأدَّيتَ الأمانة التي حملتها أحسنَ أداءٍ وأكملَه.
"ونصَحتَ"؛ أي: بذَلت وُسْعك في نُصح أُمَّتك؛ بدَلالتهم على ما يَنفعهم
في دينهم ودنياهم، وتَحذيرهم عن كلِّ ما يُردِيهم ويضرُّهم في دينهم ودنياهم،
فلا خيرَ إلاَّ دلَّ الأُمَّةَ عليه، وأمرَهم به، وحثَّهم عليه، ورغَّبهم فيه،
ولا شرَّ إلاَّ حذَّرها وأنذَرها عنه.
قوله: " فقال بإصبعه السَّبَّابة يَرفعها إلى السماء، ويَنْكُتها إلى الناس:
اللهمَّ اشْهَد ثلاثَ مرَّات": فيه دليلٌ على إثبات عُلوِّ الله على عرشه؛
حيث رفَع إصبعه إلى السماء، ومن المُتَقرِّر عند أهل السنة والجماعة
وسلفِ الأُمَّة من الصحابة والتابعين - أنَّ الله مُسْتَوٍ على عرشه،
 بائنٌ من خَلقه؛
كما قال  تعالى :
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
وقد ألَّف العلماء في هذه المسألة مؤلَّفاتٍ عدَّة؛ كالإمام الذهبي
الذي ألَّف كتابًا سمَّاه "إثبات العُلو للعلي الغفار"،
وكذلك موفَّق الدين ابن قدامة الحنبليُّ ألَّف كتابًا في ذلك أيضًا،
وكُتُب العلماء مملوءَةٌ بذِكر الأدلَّة من الآيات والأحاديث
وأقوال الصحابة والتابعين، وحتى العرب في جاهليَّتهم
يَذكرون ذلك في أشعارهم، من أنَّ الله مُسْتَوٍ على عرشه،
فلا نُطيل بذِكْر الأدلة في ذلك، فمَن طلَبها، وجَدها في أمكنتِها.
وقوله: "ويَنكُتها إلى الناس"، لا اختلاف بين الروايتين"؛
والمراد: يُقَلِّبها ويُرَدِّدها، يَستَشهِد اللهَ عليها بتبليغ رسالات ربِّه،
وتَأْدِيته لِما اؤْتُمِن عليه من نُصحهم وإرشادهم، والصبر على أذاهم.


ثانياً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر:

روى الإمام أحمد عن جابر - رضي الله عنه - قال:
( خطبَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ النَّحرِ فقال :
 أيُّ يومٍ أعظمُ حُرمةً
قالوا : يومُنا هذا
قال : أيُّ شهرٍ أعظمُ حرمةً
قالوا : شهرُنا هذا
قال : أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمةً
قالوا : بلدُنا هذا
قال : فإنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا
في بلدِكم هذا في شهرِكم هذا هل بلَّغتُ
قالوا : نعم
قال : اللهمَّ اشهَدْ )
قوله :
( أيُّ يومٍ أعظمُ حُرمةً؟ )
 أي: يَحرُم فيه التعدِّي من قتالٍ وغيره أكثرَ من سائر الأيام.
قوله: قالوا: يومنا هذا ؛ أي: اليوم العاشر الذي هو الحجُّ الأكبر.
وقوله: أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمةً؟، قالوا: بلدُنا هذا؛ أي: مكة؛
إذ إنها أفضلُ بِقاع الأرض، وفيها الكعبة المُشرَّفة التي جعَلها الله قيامًا للناس
وأَمْنًا، وفيها وُلِد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأُرْسِل إليه،
وهي مولِد الخلفاء الراشدين، وقد تكاثَرت النصوص في فضْلها
وعِظَم شَأْنها، والمعنى ما يقع في ذلك اليوم والشهر والبلد من قتالٍ وتَعَدٍّ
على الناس، فإنه - وإن كان في هذا اليوم والشَّهر والبلد - أشدَّ غِلظة،
وأعظمَ جريمةً مما لو وقَع في غيرها، وغيرها أيضًا - من يومٍ وشهرٍ وبلدٍ –
حرامٌ فيه قتالُ الناس بغير حقٍّ، والتعدِّي عليهم في أعراضهم ودمائهم
وأموالهم، وإنما أرادَ بذلك تذكيرَهم ما هو مُسْتقرٌّ في نفوسهم
من حُرمة اليوم والشهر والبلد؛ ليَبنيَ عليه ما أراد تقريرَه؛
حيث قال:
( فإنَّ دماءَكم وأموالكم )
 وفي رواية:
( وأعراضكم عليكم حرامٌ )
والعِرْض - بكِسر العين - موضعُ المدح والذمِّ في الإنسان في نفسِه أو سَلفه،
والمعنى: أنَّ انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضِكم - عليكم حرامٌ،
فمال المسلم حرامٌ كحُرمة دمه وعِرضه،
وقد تقدَّم بيان ذلك مُستوفًى في شَرْح خُطبته بعَرَفةَ.
وقوله:
( كحُرمة يومكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا )
 إنما شبَّهها في الحُرمة بهذه الأشياء؛
لأنهم كانوا لا يَرَون استباحتها وانتهاكَ حُرمتها بحالٍ،
وقال ابن المُنَيِّر:

[ قد استقرَّ في القواعد أنَّ الأحكام لا تتعلَّق إلاَّ بأفعال المُكَلَّفين،
فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر، تحريمُ أفعال الاعتداء فيها على النفس
والمال والعِرض، فما معنى إذًا تشبيه الشيء بنفسه؟
وأجاب بأنَّ المراد أنَّ هذه الأفعال في غير هذا البلد وهذا الشهر وهذا اليوم،
مُغَلَّظةُ الحُرمة، عظيمةٌ عند الله، فلا يَستسهِل المعتدِي كونَه تعدَّى
في غير البلد الحرام والشهر الحرام، بل ينبغي له أن يَخاف خوفَ
مَن فَعَل ذلك في البلد الحرام، وإن كان فِعْلُ العُدوان في البلد الحرام أغلظَ،
فلا يَنفي كونَ ذلك في غيره غليظًا أيضًا، وتَفاوُتُ ما بينهما في الغِلَظ
لا يَنفع المعتدِي في غير البلد الحرام، فإن فرَضناه تعدَّى في البلد الحرام،
 فلا يَستسهل حُرمة البلد، بل ينبغي له أن يَعتقد أنَّ فِعله أقبحُ الأفعال،
وأنَّ عقوبته بحسب ذلك؛ فيُراعي الحالتين ]
قوله:
( هل بلَّغت؟
قال: اللهمَّ اشْهَد )
 المعنى: هل بلَّغتُكم ما أُرْسِلتُ به إليكم؛ لأنَّ التبليغ فرضٌ عليه،
فقالوا: نعم؛ أي: بلَّغتَ الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونَصَحت الأُمَّة،
فعند ذلك استَشْهَد اللهَ عليهم بقوله: اللهمَّ اشْهَد،
والرسولُ بلَّغ ما أُمِر به في قوله:
 { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
ويتضمَّن:
1- حِفظ الله ووقايته لِمَن اعتصَم بكتابه العزيز.
2- دليل إثبات عُلُوِّ الله على عرشه.
3- الحِكَم التي اشْتَمَلت عليها خُطبته يوم النَّحر.

روى ابن ماجه في سُنَنه عن شَبيب بن غَرْقَدةَ،
عن سليمان بن عمرو بن الأحْوَص، عن أبيه،
قال: سَمِعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حَجَّة الوداع:
( يا أيُّها الناس، ألا أيُّ يوم أحرمُ ؟ ثلاثَ مرَّات،
قالوا: يوم الحجِّ الأكبر،
قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم،
بينكم حرامٌ كحُرمة يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا،
 ألا لا يَجْنِي جانٍ إلاَّ على نفسه، ولا يَجْنِي والدٌ على ولدِه،
ولا مولودٌ على والده، ألا إنَّ الشيطان قد أَيِس أن يُعبد في بلدِكم هذا
أبدًا، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تَحتقِرون من أعمالكم،
فيَرضى بها، ألا وكلُّ دمٍ من دماء الجاهليَّة موضوعٌ،
وأوَّل ما أضَع منها دَمَ الحارث بن عبدالمطَّلب،
كان مُسترْضِعًا في بني ليثٍ، فقتَلتْه هُذَيل،
ألا وإنَّ كلَّ ربًا من ربا الجاهليَّة موضوعٌ، لكم رؤوسُ أموالِكم،
لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، ألا يا أُمَّتاه، هل بلَّغتُ؟ ثلاثَ مرَّات،
قالوا: نعم،
قال: اللهمَّ اشْهَد ثلاث مرَّات )
قوله
يا أيها الناس، ألا أيُّ يوم أحرمُ ثلاثَ مرَّات:
أحرم؛ أي: أشدُّ حُرمة، كرَّرها ثلاث مرَّات؛ اهتمامًا بها،
وبما ستُرَتِّبه عليها من قوله: فإنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم - بينكم حرامٌ،
وكما تقدَّم بيانُه في حديث جابر، وفيه دليلٌ على أنَّ يومَ الحجِّ الأكبر
هو يوم النَّحر؛ كما اختارَه جمعٌ من المُحَقِّقين،
منهم: العلاَّمة ابن القَيِّم، وغيره.
وقوله:
 ألا لا يَجنِي جانٍ إلاَّ على نفسه، 
قال في النهاية:
الجِناية: الذَّنب والجُرْم، وما يَفعَله الإنسان مما يوجِب عليه العذابَ،
 أو القِصاص في الدنيا والآخرة.
المعنى: أنه لا يُطالَب بجِناية غيرِه من أقاربه وأباعده،
فإذا جَنَى أحدُهم جِنايةً لا يُعاقَب بها الآخر؛ كقوله:
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
 وقوله تعالى:
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }
فالمرءُ له حسناتُه وأعماله الصالحة، وعليه جريمة ما يَرتكبه من ذنبٍ
 أو جنايةٍ في: دَمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ.
قوله:
 ولا يَجنِي والدٌ على ولدِه، ولا مولودٌ على والدِه .
المراد: النهي عن الجِناية عليه؛ لاختصاصها بمزيد قُبْحٍ،
وأن يكونَ المرادُ تأكيدَ: لا يَجني جانٍ إلاَّ على نفسه،
فإنَّ عادَتهم جرَتْ بأنهم يأخذون أقاربَ الشخص بجِنايته،
والحاصل أنَّ هذا ظلمٌ يؤدِّي إلى ظُلم آخرَ، والأظهر أنَّ هذا نفيٌ، فيُوافق
قوله تعالى:
 { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
وإنما خصَّ الولدَ والوالد؛ لأنهما أقربُ الأقارب، فإذا لَم يُؤاخَذَا بفِعلهما،
فغيرُهما أَوْلَى، وفي رواية: لا يُؤْخَذ الرجُل بجريمة أبيه
فإذا كان هذا بين الوالد وولده، فغيرُهما من الأقارب بطريق الأَوْلَى،
من أنه لا يُؤْخَذ أحدٌ بذنب أحدٍ، وإنما يُؤْخَذ الشخص بفِعله.
قوله: ألا إنَّ الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبَد في بلدِكم هذا أبدًا؛
 أي: إنه أَيِس بنفسه بالبناء للفاعل لا بالبناء للمفعول،
وهو أنه لَمَّا رأى انتشارَ الإسلام ودخولَ الناس في دين الله أفواجًا،
 أَيِسَ أن يُعبَد في جزيرة العرب، وعبادتُه: طاعتُه بنوعٍ من أنواع الكفر؛
كما قال تعالى :
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ }
أي: ألاَّ تُطيعوه، وهذا من نص
 قوله تعالى:
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ }
فإن الكفار أَيِسوا من رجوع المسلمين عن إسلامِهم إلى دين الكفر،
فالرسول: نَسَب الإياس إلى الشيطان، ولَم يقل: إنَّ الله آيَسَه،
فالإياس الحاصل من الشيطان، لا يَلزم تحقيقُه واستمرارُه،
ولكنَّ عدوَّ الله لَمَّا رأى ما ساءَه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب
وعُلُوِّه - أَيِس مِن تَرْكِ المسلمين دينَهم الذي أكرَمهم الله به،
ورجوعِهم إلى الشِّرك الأكبر.
فالكل يَئِسَ من ارتداد المسلمين وتَرْكهم دينَهم،
ولا يَلزم من ذلك امتناعُ وجود الكفر في أرض العرب؛
 ولهذا قال ابنُ رجب على الحديث:
"إنَّ الشيطان يَئِس أن تُجمع الأُمَّةُ على أصْل الشِّرك الأكبر "
يوضِّح ذلك ما حصَل من ارتداد أكثرِ أهل الجزيرة
بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتال الصِّدِّيق والصحابة لهم
على اختلاف تنوُّعهم في الرِّدَّة، وقال أبو هريرة:
لَمَّا مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكرٍ،
وكفَر مَن كفَر من العرب، ورِدَّة بَني حَنِيفة،....إلخ".
ولا دَلالة في هذا الحديث لِمَن قال بعدم وقوع الشِّرك في جزيرة العرب،
فوقوع الشِّرك فيها معلومٌ بالضرورة؛ كارتِداد الكثير في جزيرة العرب،
وكُفر مُسَيلِمة وأصحابه، والأسود العَنسي، وأمثالهم كثير،
فهل يُقال: إنهم ليسوا بكفَّار، بناءً على حديث:
 ( إنَّ الشيطان أَيِس أن يُعبد في جزيرة العرب )
 أعتقد أنه لا قائلَ بهذا.
وأيضًا ما يَفعله بعضُ هذه الأُمَّة عند القبور من الذَّبح لها والنَّذر،
وسؤالِها تفريجَ الكُربات، وكَشْفَ الشدائد، وطلبِ المَدَد من أصحابها –
فهذا هو الشِّرك بعينه المنافي للتوحيد.
قال البخاري في صحيحه - باب تغيُّر الزمان حتى تُعبد الأوثان -:
حدَّثنا أبو اليمان، أخبَرنا شُعيب عن الزُّهْري، قال:
قال سعيد بن المُسَيَّب:
أخبَرني أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال:
( لا تقومُ الساعة حتى تَضطربَ أَلَيَاتُ نساء دَوْسٍ على ذي الخَلَصَة )
 وذُو الخَلَصَة طاغية دَوْسٍ التي كانوا يعبدون في الجاهلية.
وفي معنى هذا الحديث ما أخرَجه الحاكم عن عبدالله بن عمرو،
قال: لا تَقوم الساعة، حتى تُدافع مناكبُ نساء بني عامر على ذي الخَلَصَة،
وعلى قول مَن زعَم أنَّ هذه الأُمَّة لا يقعُ فيها شِرْكٍ - استنادًا منه إلى حديث:
( إنَّ الشيطان أَيِس أن يُعبَد في جزيرة العرب )
 يَلزم منه أنَّ الصحابة أخْطَؤُوا في قتال مُسَيْلمة والأسود العَنسي،
وأمثالهم ممن ارْتَدَّ عن الإسلام، وقد ثبَت في الحديث الصحيح
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
( لا تَقوم الساعة، حتى تُعبد اللات والعُزَّى ).
وفي الحديث الصحيح أيضًا من خَبر الدَّجَّال: أنه لا يَدخل المدينة،
بل يَنزل بالسَّبخة، فتَرجُف المدينة ثلاثَ رَجَفات،
فيَخرج منها كلُّ كافرٍ ومنافق، فأخبَر أنَّ في المدينة إذ ذاك كفَّارًا ومنافقين.
وقوله:
( ولكن سيكونُ له طاعةٌ في بعضِ ما تَحتقِرون من أعمالكم، فيَرضَى بها )
أي: دون الكفر؛ من القتل والنَّهب، ونحوهما من الكبائر، وتحقير الصغائر،
فيَرضى بصيغة المعلوم؛ أي: الشيطان، بها؛ أي: بالمُحْتَقَر؛
حيث لَم يَحصل له الذنبُ الأكبر الذي هو الكفر؛
ولهذا ترى المعاصيَ - من الكذب، والخيانة، والغشِّ، ونحوها –
تُوجَد كثيرًا في المسلمين، وقليلاً في الكافرين؛
لأنه قد رَضِي من الكفَّار بالكفر، فلا يُوَسْوِس لهم في الجزئيَّات،
بخلاف المسلمين يَرمِيهم في المعاصي؛ لعدم حصوله منهم على الكفر.
رُوِي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال:
[ الصلاة التي ليس لها وَسْوسة، إنما هي صلاة اليهود والنصارى ]
 لأنها لا تَنفعهم، وغيرُ صحيحةٍ من أصلها؛ لوجود ما يُنافيها وهو الكفر،
ومن الأمثال:
[ لا يدخلُ اللصُّ في بيتٍ إلاَّ فيه متاعٌ نفيسٌ ]
فالشيطان كاللصِّ لا يدخل البيوت الخَرِبة، وهم الذين صدَر منهم الكفر،
وإنما يدخل البيوت التي فيها أمْتَعِة ثمينة يريد انتهابَ شيءٍ منها ولو قليلاً؛
لعدم تمكُّنه مِن أخْذ المَتاع كلِّه.
قوله:
( ألا وكلُّ دَمٍ من دماء الجاهليَّة موضوعٌ )

 أبطَل ما بين الناس في جاهليَّتهم من الدماء، وكذا بَيْعاتهم الفاسدة
التي لَم يتَّصل بها قَبْضٌ، وبدَأ في ذلك بأقاربه الأَدْنَيْن؛
 ليكون أوْقَعَ في نفوس السامعين، وأَهْيَأَ لقَبولهم؛
فإن الآمرَ الناهي إذا بدَأ بنفسه وبأهله - فيما يأمرُ به،
وما يَنهَى عنه - صار لعِظَته وَقْعٌ في النفوس، بقَبول ما يأمرُ به،
وما يَنهَى عنه، بخلاف إذا كان يُخالف ما يحضُّ به،
ويأمر ويَنهَى الناس عنه، فلا يكون لكلامه في النفوس القَبول التامُّ.
قوله: ألاَ يا أُمَّتاه، هل بلَّغتُ ثلاثَ مرَّات، قالوا: نعم،
قال: اللهمَّ اشْهَد ثلاثَ مرَّات - تقدَّم شرحُ هذا الحديث في خُطبته يومَ عرَفَة،
واستشَهد اللهَ عليهم ثلاثَ مرَّات، حين اسْتَنْطَقهم بتبليغه لهم،
واعترافهم بذلك، فلقد بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانة، ونصَح الأُمَّة،
 وجاهَد في الله حقَّ جهاده، فما توفِّي إلاَّ وقد أكمَل اللهُ به الدِّينَ،
وبلَّغ البلاغ المُبين.



ثالثاً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالخيف بمنى:
وتتضمَّن:
1- دعاءَه لأهل الحديث دعاءً اختصَّهم به دون الأُمة؛
وذلك يدلُّ على شرف الحديث وأهله.
2- أنَّ حاملَ الحديث ليس من شرْطه أن يكون فقيهًا،
فرُبَّما كان مَن حُمِل إليه الحديثُ أفقهَ منه.
3- أنَّ علماء الأُمَّة صنفان: صِنف هم أهل الحديث والرِّواية،
وصِنف هم أهل الفقه والدِّراية، فأهل الحديث كالصيادلة،
وأهل الفقه كالأطباء.
4- الإخلاص في العمل، والنُّصح لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم.
روى ابن ماجه في سُنَنه، قال:
حدَّثنا محمد بن عبدالله بن نُمير، حدَّثنا أبي، عن محمد بن إسحاق،
عن عبدالسلام، عن الزُّهْري، عن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، قال:
قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالخَيْف من مِنًى، فقال:
( نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فبلَّغها، فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ،
ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ –
يعني: قلب مؤمن -: إخلاص العمل لله، والنصيحة لوُلاة المسلمين،
ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تُحيط من ورائهم )
قوله:
( نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فبلَّغها )
 قال الأصمعي: هو بالتشديد، وقال النووي: هو قول الأكثر،
وقيل بالتخفيف، والمعنى: خصَّه الله بالبهجة والسرور؛
لِما رُزِق بعلمه ومعرفته من القدْر والمنزلة بين الناس في الدنيا،
ونعَّمه في الآخرة؛ حتى يُرى عليه أثرُ الرَّخاء والنعمة،
وخصَّ مُبلِّغ الحديث كما سَمِعه بهذا الدعاء؛ لأنه سَعَى في نضارة العلم،
وتجديد السُّنة، فجازاه بالدعاء بما يُناسب حاله،
وهذا يدلُّ على شرف الحديث، وفضْله، وعُلوِّ درجة طلاَّبه؛
حيث خصَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعاءٍ لَم يُشرِك فيه أحدًا
من الأُمَّة، ولو لَم يكن في طلب الحديث وحِفظه وتبليغه فائدةٌ سوى
أن يَستفيد بركةَ هذه الدعوة المباركة - لكفى ذلك فائدةً وغُنمًا.

وقال محيي السُّنة:
اختُلف في نقْل الحديث بالمعنى، وإلى جوازه ذهَب الحسن والشعبي
والنَّخَعي، وقال مجاهد: انُقصْ من الحديث ما شِئتَ، ولا تَزِد،
وقال سفيان: إن قلتُ حدَّثتكم كما سَمِعتُ، فلا تصدِّقوني، فإنما هو المعنى،
وقال وكيعٌ: إن لَم يكن المعنى واسعًا، فقد هلَك الناس،
وقال أيُّوب عن ابن سيرين: كنتُ أسمع الحديث من عشَرة،
واللفظ مختلِف، والمعنى واحد.
وذهَب قومٌ إلى اتِّباع اللفظ؛ منهم: ابن عمر، وهو قول القاسم بن محمد،
وابن سيرين، ومالك بن أنس، وابن عُيينة، وقال محيي السُّنة:
الرواية بالمعنى حرامٌ عند جماعات من العلماء، وجائزة:
عند الأكثرين، والأَوْلى اجتنابها
قوله:
 ( فرُبَّ حامل فقهٍ غيرِ فقيهٍ )
 أي: إن راويَ الحديث ليس الفقهُ من شرْطه،
إنما شرطه الحِفظ، وعلى الفقيه التفهُّم والتدبُّر،

قوله:
( ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه (
 أي: فرُبَّ حاملِ فقهٍ قد يكون فقيهًا، ولا يكون أفقهَ،
 فيَحفظه ويُبلِّغه إلى مَن هو أفقه منه، فيَستنبط منه ما لا يَفهمه الحامل،
أو إلى مَن يَصير أفقهَ منه؛ إشارة إلى فائدة النقل والداعي إليه؛
قال الطِّيبي: هو صفةٌ لمدخول رُبَّ، استَغنى بها عن جوابها؛
 أي: رُبَّ حامل فقه أدَّاه إلى مَن هو أفقه منه.
قوله:
ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ )
 يعني: قلب مؤمن: هو بفتْح الياء وكسْر الغين من الغِل،
وهو الضِّغْن والحقد، يُريد: لا يَدخله حقدٌ يُزيله عن الحقِّ.
قوله :
( إخلاص العمل لله )
فالعمل لا يُقبل إلاَّ إذا كان خالصًا لله، نقيًّا مما يَشُوبه، قُصِد به وجهُ الله،
فإن قَصد بعمله غيرَ الله - كتعلُّمه العلم؛ لنيْل وظيفةٍ، أو طلب جاهٍ –
فعملُه لا يُقبل؛ لتخلُّف النيَّة الصالحة، بل لا بدَّ أن يكون العملُ لله،
وعلى سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم –
فالعمل لا يُقبَل إلاَّ إذا انبَنى على أصلين؛ 
الأوَّل: تجريد الإخلاص لله، وهذا معنى قوله:
( إنما الأعمال بالنيَّات )،
والثاني: تجريد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم –
وهو معنى قوله:
( مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ )
 فالعمل لا بدَّ أن يكون خالصًا صوابًا، فالخالص يكون لله،
والصواب يكون على سُنة رسول الله.
وقال الفُضيل بن عياض في قوله - تعالى -:
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }
[ هود: 7 ].
قال: "أخلصُه وأصْوبُه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصُه وأصوبُه؟
 قال: أخلصُه أن يكون لله، وأصوبُه أن يكون على سُنة
 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العمل إذا كان خالصًا،
ولَم يكن صوابًا، لَم يُقبل، وإذا كان صوابًا، ولَم يكن خالصًا،
لَم يُقبل؛ حتى يكونَ خالصًا صوابًا، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ،
 والنية بغير إخلاص رياءٌ، والإخلاص من غير تحقيق هباءٌ.
قوله:
(والنُّصح لولاة المسلمين ولزوم جماعتهم )
النُّصح: عبارة عن إرادة الخير للمنصوح له،
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي:
[ النصيحة تشمل خِصال الإسلام والإيمان والإحسان،
ومعنى النصح لأئمَّة المسلمين: معاونتُهم على الحقِّ وطاعتهم فيه،
وتذكيرهم ونَهْيهم في رِفْق ولُطفٍ، ومجانبة الوثوب عليهم،
والدعاء لهم بالتوفيق، وتنبيهم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهَفوة،
وغرْس محبَّتهم في قلوب الرعيَّة، وردُّ القلوب الشاردة إليهم،
وغرْس محبَّة الرعيَّة في قلوبهم،
وعدم الخروج عليهم بلزوم جماعة المسلمين ]


رابعاً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :
أيُّها الناسُ اسْمَعُوا قَوْلِي فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بعدَ يومِي هذا
في هذا المَوْقِفِ ، أيُّها الناسُ، إِنَّ دِماءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حرامٌ
إلى يومِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يومِكُمْ هذا في شهرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا ،
و إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عن أَعْمالِكُمْ ، وقَدِ بَلَّغْتُ ،
فمَنْ كان عندَهُ أَمانَةٌ فَلْيُؤَدِّها إلى مَنِ ائْتَمَنَهُ عليْها ،
وإِنَّ كلَّ رِبًا مَوضُوعٌ ولَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ ،
قَضَى اللهُ أنْ لا ربًا ، وإِنَّ رِبا عَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كلُّهُ ،وإِنَّ كلَّ دَمٍ كان في الجاهليةِ مَوْضُوعٌ ،
وإنَّ أولَ دمائِكُمْ أَضَعُ دَمُ ابنِ رَبيعَةَ بنِ الحارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ،
كان مُسْتَرْضَعًا في بَنِي لَيْثٍ فقتلَتْهُ هذيلٌ فهوَ أولُ ما أبدأُ بهِ
من دِماءِ الجاهليةِ .
أما بَعْدُ أيُّها الناسُ فإنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ بِأرضِكُمْ ولَكِنَّهُ
إنْ يطعَ فيما سِوَى ذلكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ من أَعْمالِكُمْ فقد رضيَ بهِ
فَاحْذَرُوهُ أيُّها الناسُ على دِينِكُمْ ،
وإنَّ النَّسِيء زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
إلى قولِهِ ما حَرَّمَ اللهُ وإِنَّ الزَّمانَ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِه يومَ خلقَ اللهُ
السمواتِ والأرضَ ، وإِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللهِ اثْنا عشرَ شهرًا
مِنْها أربعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثٌ مُتَوَالِياتٌ ورَجَبُ مُضَرَ
الذي بين جُمادَى وشَعْبانَ )
 قال حميد: قال الحسن - حين بلغ هذه الكلمة -:
قد والله بلغوا أقوامًا كانوا أسعدَ به.
أبو حُرَّة الرَّقَاشِي، هو: بضم الحاء المهملة وتشديد الراء،
واسم أبي حُرَّة "حنيفة"، وقيل: "حكيم"، والرَّقَاشِي: بفتح الراء، وتخفيف القاف،
وبعد الألف شين معجمة، وثَّقه أبو داود، وضعَّفه ابن مَعِين.
إن هذا الشهر - وهو شهر ذي الحجة - واليوم الذي هو أوسط أيام التشريق،
والبلد - التي هي مكة - أعظمُ تحريمًا من غيره؛
فالقتال والتعدِّي في هذا الشهر، وفي هذا اليوم،
وفي هذا البلد أشدُّ تحريمًا من غيره في بقية الشهور والأيام والبلاد،
وإن كان كلُّ ذلك حرامًا ممنوعًا، غير أنه في هذا البلد
وفي هذا الزمن أشدُّ وأعظمُ، وقد تقدَّم شرح ذلك.
قوله:
( إِنَّ دِماءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حرامٌ إلى يومِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يومِكُمْ هذا في شهرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا )
أراد: تذكيرَهم بما هو مستقِرٌّ في نفوسهم من حرمة الشهر واليوم والبلد؛
ليقرِّر لهم تحريمَ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، بانيًا بهذا
على ما هو ثابتٌ في قلوبِهم، ومعلومٌ لديهم من حرمة الشهر واليوم والبلد،
وقد تقدَّم تحريمه.
الظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه، وشرعًا: التعدِّي على الناس في دمٍ،
أو عِرْض، أو مال، وقد حرَّم الله الظلم على نفسِه؛
كما قال في الحديث القدسي: 
إني حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تظَّالموا)
 فالله - سبحانه وتعالى - أخبر بعدمِ ظلمِه لعباده، قال - تعالى -:
{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
[ فصلت: 46 ]

{ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }
[ الكهف: 49 ]

{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ }
[ غافر: 31 ].
 لا تَظلمِوا أنفسكم بالعدول عن التوحيد إلى الشرك، ومن الهُدَى إلى الضلال،
ومن الخير إلى الشر، كما لا تَظلِموا غيرَكم في دم أو مال أو عِرْضٍ؛
فإن الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة،
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عمَّاله عن الظلم، فقال:
( واتقِ دعوةَ المظلوم )
أي: اجعل بينك وبينها وِقَايةً بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران
يَقِيان مَن رُزِقَهما من جميع الشرور دنيا وأخرى.
وفي الحديث:
( اتقوا دعوةَ المظلومِ فإنها تحمَلُ على الغمامِ يقول اللهُ عزَّ وجلَّ
وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّكِ ولو بعد حينٍ ).
وكرَّر النهيَ عن الظلم ثلاثًا؛ تعظيمًا لشأنه، وتحذيرًا من عاقبة شؤمه،
 فلا يجوز التعدِّي على أحدٍ بغير حق في دم ولا عِرض ولا مال،
والله - سبحانه وتعالى - أمر بالعدل بين الناس في أقوالهم وأفعالهم،
قال  تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }
[ النساء: 58 ].
وقال:
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا }
[ الأنعام: 152 ]
 وقال:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ }
[ النحل: 90 ] الآيةَ.
والعدل: هو جماعُ كلِّ خيرٍ، به تستقيم الأمور، وتنتظم الأحوال،
ويَستَقِر الأمن، ويحصل به الرخاء والطمأنينة والراحة.
إن مالَ المسلمِ محترَم، لا يجوز التعدي عليه،
وفي هذا تحقيقٌ لاحترام المِلكية الفَرْدِية، وبطلان الاشتراكية،
وقد قامت دلائل النصوص القطعية الكثيرة باحترام الملكية الفردية
ومقارنتها بالدَّمِ والعِرض
كما في حديث المصطفى :
( كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه، ومالُه وعِرْضه )
وحديث:
( مَن قُتِل دون مالِه؛ فهو شهيدٌ )
 الحديثَ.
وقد تقدَّم بيانُ ذلك في شرح خُطبته يوم عرفة.
وقوله:
(ألا وإن كلَّ دمٍ، ومالٍ، ومأثرةٍ كانت في الجاهلية تحت قدميَّ هذه إلى يوم القيامة)
 تقدَّم شرح هذا كله.
وقوله: مأثرةأي: كلُّ مفخَرةٍ تَفتَخِر بها العرب، وتتعاظم بها،
مما هي من أمور الجاهلية؛ فهي موضوعة؛ أي: مبطَلة مهدَرة.
وقوله:
( وإنَّ أوَّل دمٍ يُوضَع دمُ رَبِيعة )
 إلخ.
تقدَّم الكلام عليه أيضًا.

قوله:
( ألا وإن الزمان قد استدار )
 إلخ.
المرادُ من استدارة الزمان عودةُ حسابِ الشهور إلى ما كان عليه
من أولِ نظام الخلقِ،
بعد أن كان قد تغيَّر عند العرب بسبب النَّسِيء في الأشهر.
وقال الحافظ: إن المراد بالزمان السَّنَة.
وقوله: كهيئتِه؛ أي: استدار استدارةً مثل حالته،
ولفظُ الزمانِ يطلَق على قليلِ الوقت وكثيرِه، والمرادُ باستدارتِه:
وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلَّت فيه الشمس برج الحَمَل،
 حيث يستوي الليل والنهار .
قال القرطبي:
[ حكي الإمام المازري عن الخُوارَزمي، أنه قال:
أول ما خلق اللهُ الشمسَ أجراها في برج الحَمَل،
وكان الزمان الذي أشار به النبي - صلى الله عليه وسلم –
صادف حلول الشمس برج الحَمَل ]
قلتُ: والمعنى - والله أعلم - أنَّ الزمان الذي حجَّ فيه
النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استدار كمثلِ ما كان عليه
من أوَّلِ نظامِ الخَلقِ.
وقوله:
( ألا لا تَرجِعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض )
 ينهاهم: عن الرجوع عما كانوا عليه في عهدِه من: الصلاح، والاستقامة،
ولزوم السنِّة وجماعة المسلمين، والكفرُ المذكورُ في هذا الحديث
غيرُ مخرِجٍ من الملَّة، مثل قوله:
( اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ )
 فوجود الخَصلة من خصال الكفر في العبد لا يَستَلزِم وجودَ الكفرِ المطلَق،
كما أن مَن ترك خَصلة من خصال الإيمان لا يُسلَب عنه الإيمان المطلَق،
ولا يكون مؤمنًا باقتصارٍ على خَصلة من خصال الإيمان.
والكفر ما جاء منكرًا في قوله:
( لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رقاب بعض )
بخلاف الكفر المعرف، فهو المخرِج من الملة؛ كحديثه :
( بين العبدِ وبين الكفرِ تركُ الصلاة )
 وقد وقع بين المسلمين من القتال، وضرب الرقاب ما لم يخرُجوا به
عن دائرة الإسلام، كما وقع في وقعة الجمل، ووقعة صِفِّين، وغيرهما؛
لأن كلاًّ منهم مجتهدٌ، وقصدُه الحقُّ، غير أن أحدَهم مجتهدٌ مُصِيبٌ،
والآخرُ مجتهِد مخطئٌ، وخطؤهم مغفور في جانب فضلهم وسابقتهم
وجهادهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك؛
 قال  تعالى : 
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى 

فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }
[ الحجرات: 9 ]
 فسمَّاهم مؤمنينَ، مع وجود القتال بينهم؛
فالقتال بين المسلمين لا يُخرِجهم عن دائرة الإسلام.
وقوله:
( واتَّقوا الله في النساءِ؛ فإنهن عندكم عَوان، لا يملِكن لأنفسهن شيئًا ).
عوانٌ أي: أَسْرَى، وتقوى الله فيهن؛ أي: بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛
فالنساء ضعيفاتٌ، يجب على الرجل: احترامُهن، ومراعاةُ حقوقِهنَّ،
والمحافظة عليهنَّ باجتنابهنَّ ما يُزْرِيهنَّ، أو يَخدِش من كرامتِهنَّ،
فالرجل مسؤولٌ عن أهل بيته،
قال  تعالى :
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }
[ النساء: 34 ].
وقد تقدَّم شرح هذه الجملة في خطبته بعرفة.
فأداءُ الأمانةِ إلى مَن ائتمنه عليها أمرٌ لازِم، وحقٌّ واجِب،
قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }
[ النساء: 58 ]،
 وقال -صلى الله عليه وسلم-:
( أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك )
 فخيانة الأمانةِ خَصلةٌ ذميمةٌ، وصفة قبيحة، بل هي من علامات النفاق؛
 لقوله  في وصف المنافق:
( إذا اؤتُمِن خان )
 فمَن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى صاحبها موفورةً كاملةً كما كانت.
وذكرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في خطبته العظيمة في المجمَع
العظيم، يدلُّ على الاهتمام بها، وعظم شأنها، ويأمر المسلمين بتأديتِها،
حيث ا عليها من وديعة، وقِراض، وقرض، وغير ذلك.

تم بحمد الله
منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق