الأحد، 28 ديسمبر 2014

زوال النعم بالمعاصي والذنوب


زوال النعم بالمعاصي والذنوب ... (قارون نموذجا)
عبد الله علي محمد العبدلي
المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية
حذر الله تبارك وتعالى عباده من الذنوب والمعاصي، وبين أنها سبب الهلاك والعقاب،
 فقال تعالى: 
 { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }
 [المائدة:49]

وقال تعالى: 
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ }
 [الأعراف:100].

 ومن أعظم أنواع الذنوب المهلكة للعبد :
الكبر والبطر، بكثرة المال والمتاع، والله سبحانه إذا أنعم على عبد بنعمة
حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه
 فقال تعالى:  
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }
 [الرعد: 11].

 ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه
عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك
من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله
من سوء عواقب الذنوب، كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم

 فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ولا حصلت فيها الزيادة بمثل
شكره ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه فإنها نار النعم التي تعمل
فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس([1]).

والقليل من الناس من يوفق للصبر على الابتلاء بالنعمة، ولذلك فإن
سيدنا سليمان عليه السلام عندما ابتلاه الله تعالى بالنعمة، واتساع الحكم
والسيطرة على الإنس والجن والطير، ولما جاءه عرش بلقيس من بلاد
اليمن إلى بلاد الشام، قبل أن يرتد إليه طرفه، أدرك أن هذا نوع
من الابتلاء فنطق بالشكر لله تعالى على هذه النعمة

 {... فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }
 [النمل: 40].

وقد قصَّ الله عليْنا قصص الأمم الماضية؛ لنأخذ منها الدروس والعبَر؛
 قال تعالى:  
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }
[يوسف: 3].

فالقصةُ مدرسةُ المؤمنين المنتفعينَ بهدي القرآن
قال تعالى: 
{ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ }
[الجاثية: 20].

 ومن أعظم القصص التي ذكر الله تعالى في كتابه:
قصة قارون، فقد ابتلاه الله بالنعمة وكثرة الأموال، فلم يصبر
 على ذلك الابتلاء، ولم يحفظ تلك النعمة.
قال تعالى: 
 { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ...}
[القصص: 76]،

قال ابن جرير:
"وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه، والله أعلم"([2]).

ولكنه رغم قرابته من موسى صلى الله عليه وسلم بغى وتكبر بكثرة
أمواله وعرضه، فلقد كانت أمواله من الكثرة حتى سميت بالكنوز

 { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ }
 [القصص: 76].

 أي: ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها([3])، وكان الواجب عليه
 أن يقف بجانب قومه المستضعفين من فرعون، وأن يشعر بمشاعرهم
ويواسيهم في جملة مصائبهم، ولكنه بدلا من ذلك، انحاز إلى جانب الطغاة، وبغى على قومه،
 كما قال تعالى: 
{ فَبَغَى عَلَيْهِمْ }
 [القصص: 76].

 وزاد في ذلك البغي عندما تقدم أهل الصلاح من قومه بالنصائح الخمس
القيمة في معانيها العظيمة في نتائجها لو استجاب لها، فقالوا له:

{ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
 [القصص : 76 - 77].

أي: لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا، إن الله لا يحبّ من خلقه الأشِرِين البَطِرين،
 ولا تبغ يا قارون على قومك بكثرة مالك، والتمس فيما آتاك الله من
الأموال خيرات الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، ولا تترك نصيبك
وحظك من الدنيا، أن تأخذ فيها بنصيبك من الآخرة، فتعمل فيه
بما ينجيك غدا من عقاب الله.

وأحسن في الدنيا إنفاق مالك الذي آتاك الله، في وجوهه وسبله،
 كما أحسن الله إليك، فوسع عليك منه، وبسط لك فيها، ولا تلتمس
 ما حرّم الله عليك من البغي على قومك، إن الله لا يحبّ
بغاة البغي والمعاصي([4]).

فإذا به يتمادى في ذلك البطر، ويصل الأمر به للكذب على الله،
 وادعاء الأفضلية على قومه،

 { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي }
 [القصص: 78].

أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب،
وحذقي، أو على علم من الله بحالي، يعلم أني أهل لذلك، فلم تنصحوني
على ما أعطاني الله تعالى؟
قال تعالى مبينا أن عطاءه، ليس دليلا على حسن حالة المعطي:

 { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا }
 [القصص: 78]

فما المانع من إهلاك قارون، مع مُضِيِّ عادتنا وسنتنا بإهلاك
من هو مثله وأعظم، إذ فعل ما يوجب الهلاك؟.

{ وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }
[القصص: 78]

 بل يعاقبهم الله، ويعذبهم على ما يعلمه منهم، فهم، وإن أثبتوا لأنفسهم
حالة حسنة، وشهدوا لها بالنجاة، فليس قولهم مقبولا وليس ذلك دافعا
عنهم من العذاب شيئا، لأن ذنوبهم غير خفية، فإنكارهم لا محل له([5]).

ولم يزل مستمرا في عناده وبغيه وعدم قبول النصح، قد أعجبته نفسه،
وغره ما آتاه الله من أموال، فخرج على قومه بماله وخدمه وحشمه
ليكيدهم ويقهرهم.

فقال فريق من الناس: يا ليت لنا مثل قارون من زينة الدنيا، فإن همهم
كان الدنيا وذلك لصغف إيمانيهم
قال سبحانه: 
 { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
 [القصص: 79].

 أي: خرج في زينة انبهر لها من رآها، ولهذا تمنى الناظرون إليه
 أن يكون لهم مثلها، وقالوا: إنه لذو حظ عظيم أي: نصيب وافر
 من الدنيا([6]).

فرد عليهم من آتاهم الله قسطا من العلم بأحوال الدنيا والآخرة،
 بأن أمنيتهم ليست في محلها، ولا يليق ذلك بالمؤمنين بل يكتفى
 بثواب الله أفضل من الدنيا.
قال تعالى:
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ }
[القصص:80].

أي: "وقال الذين أوتوا العلم بالله، حين رأوا قارون خارجا عليهم
في زينته، للذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: ويلكم اتقوا الله
وأطيعوه، فثواب الله وجزاؤه لمن آمن به وبرسله، وعمل بما جاءت به
رسله من صالحات الأعمال في الآخرة، خير مما أوتي قارون من زينته
وماله لقارون"([7]).

 النهاية الأليمة :
لم يستجب قارون لنداء الإصلاح، أو زخز الضمير، ولا أنات
المستضعفين، فكابر وتعاظم، وخرج بزينته مفاخرا قومه، ومحركا
الغيرة في نفوسهم، وإذا به يقرب نفسه ويعرضها لعقوبة الله سبحانه
الذي لا يرضى البغي ولا الظلم.
عاجل الله قارون بالعقوبة قبل أن يفتن أحدا من المؤمنين،
وكانت العقوبة مقدرة بقدرها، ومتناسبة مع جريمته،
فعندما مشى فوق الأرض مختالا متعاليا على أصله الذي خلق منه، صدر
الأمر من الله سبحانه للأرض أن تضمه إلى حضنها وتهوي به في بطنها،
وأن تأخذ معه كل ما كان سببا في تعاليه، وليقطع السبيل على المغرورين
فيه، ويحرك ضميرهم ويردهم للإيمان.

{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ
 مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ }
[القصص: 81].

والخسف: انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها([8]).

 هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة :

{ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ }

 فابتلعته وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال
فوقها جزاء وفاقا. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر
 بجاه أو مال.وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس وردتهم
الضربة القاضية إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال.
 وكان هذا المشهد الأخير.

{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ
 وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
 لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
[القصص: 82].

وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما آتى
 قارون، وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة([9]).

وهكذا استفاقت تلك الفئة التي كانت مبهورة بقارون وأمواله، وتظن
 كما ظن قارون أن كثرة المال دليل على رضا الله عن العبد،  وعرفوا أن
المال قد يكون نقمة، إن لم يستخدمه صاحبه في طاعة الله.

 من فوائد قصة قارون :
1-  المعاصي قد تعجَّل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فقارون عاجله
الله بالعذاب بالخسْف، فجعله عِبْرَةً للآخِرين.

2- النعمة والمال قد يكون وبالا وحسرة على صاحبه إذا لم يستخدمه
الإنسان في طاعة الله؛
قال تعالى:
 { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
 [الأنفال: 36]

 وقال تعالى: 
{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
 لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}
 [التوبة: 55].

3- كثرة الأموال وعرض الدنيا أن لم تزين وتحرس بالتقوى والإيمان،
تنتهي بأصحابها إلى البغي على الخلق، والتكبر على الحق، وقارون كان
خير مثال على ذلك،
قال تعالى: 
{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
 [التغابن: 15].

4-  رابعا: القرابات لا تنفع أصحابها، إن لم يجمعهم رباط الإيمان
 ووشائج التقوى.

5-  وجوب النصيحة من أهل الإيمان فيما بينهم، ولأهل المعاصي
والذنوب أكثر.

6-  بغض الله تعالى وعدم محبته للمختالين المغترين بأموالهم وسلطانهم
 المتجبرين على الخلق

 { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
[لقمان: 18].

7-  وجوب الإحسان لخلق الله مما أنعم به على عباده، ففضله عظيم،
وخيره وفير، والإحسان منه دليل شكر من المخلوق للخالق.

8-لا ينبغي للإنسان أن ينسب الخير أو الفضل لنفسه؛ لأن مصدر الخير
ومالكه الحقيقي هو الله سبحانه، والإنسان مستخلف في هذه الدنيا.

9- إهلاك الطغاة رغم قوتهم وغناهم فيه عبرة وعظة لمن رزقه الله تعالى
 العقل السليم وحسن الإنابة وصدق التوبة.

10- من غلبت عليه شهوته واستولت عليه الغفلة، وذهب عنه الخوف
من ربه، وامتلأ قلبه بالكبر والعجب، ورد نصيحة الناصح، وترك ما يجب
عليه من الصدق والنصيحة، فليبشر بالخسارة في الدارين، زوال النعم
الباطنة والظاهرة.
------------------------------------
 ([1]) بدائع الفوائد (2/432)، بتصرف.
([2]) تفسير ابن كثير 6/ 253.
([3]) تفسير ابن كثير 6/ 253.
([4]) تفسير الطبري 19/622- 625.
([5]) تفسير السعدي، ص: 624.
([6]) فتح القدير للشوكاني 4/216.
([7]) تفسير الطبري 19/629.
([8]) التحرير والتنوير 20/185.
([9]) في ظلال القرآن  (5/ 2713).
--------------------------------
المصدر: باحثي مركز تفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق