أعظم النعيم رؤية رب العالمين
أيها المشتاقون إلى الله، تعالوا بنا نذهب بعيدًا عن متاعب الحياة، وأنكاد الدنيا، وأكدار الأحداث، وتنغيصات الأخبار؛ تعالوا ننتقل من الأحزان إلى السلوان، ومن الإرهاق إلى الأشواق، ومن التعاسة والسياسة إلى الوناسة، ومن ضيق الأمور إلى انشراح الصدور، ومن جحيم الواقع إلى الزلال النافع، والدواء الناجع.
تعالوا نعيش في دوحة من الحب، وروضة من الأنس، وحديقة من الشوق، وواحة من الغرام؛ نعيش الحب حيث لا أجمل منه في إضفاء السرور، وإمتاع القلوب، وإشباع المشاعر، وطرد الهموم، وتذوق الحياة، ومداواة الجراح!.
أيها المحبون: أجزم أنه ما من أحد منكم إلا وله حبيب قد ملك فؤاده، وأسر قلبه؛ حبيب يطرب لرؤيته، ويأنس لحديثه، ويتشوق للقائه؛ إما زوجةً صالحة حسناء، وإما ولدًا بارًا، وإما والدًا عطوفًا، أو والدة حنونًا، أو زوجًا صالحًا، أو غير ذلك.
تصور لو غاب عنك حبيب شغفت به حُبًّا، ومُلئت له شوقًا، يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا أو سنةً، ماذا يكون من أمرك؟ كم يكون بك من الشوق؟ كم يمر بك من الضنى؟ كم تتجرع من مرارة الفراق؟ كم ستدمع عينك؟ كم سيتمزق قلبك؟.
بل ربما تبيض عيناك من البكاء، وينضى جسمك من العناء، بل ربما تموت حسرة، وتقضي ندمًا، تعيش كل يوم وأنت تتمنى أن تظفر بنظرة أو بسمة أو كلمة، تمني النفس باللقاء، وتعلل الفؤاد بالرؤية، وتطمع القلب بالأمل.
ما رأيكم أن هنالك قومًا لهم حبيب ينتظرونه!، ويطربون لرؤيته!، ويشتاقون للقائه!،... قد شربوا من كؤوس حبه، وتضلعوا من زلال قربه، ذابت له المهج، وأريقت لأجله الدماء، وبيعت الأنفس، وتطايرت الرؤوس، وذوت الأجسام، وحفيت الأقدام، وشحبت الألوان، وبكت العيون، وحورب النوم، وهجر النعيم، وبذل الغالي والنفيس؛ لكي يظفروا بلقائه، وينعموا بوصاله، ويتلذذوا بالنظر إلى وجهه الجميل! ... إنه الله رب العالمين جل جلاله!!!.
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].
رؤية المولى سبحانه، هي أعلى مراتب نعيم الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله ومعرفتهم به. «مجموع فتاوى ابن تيمية» (6/485)
رؤية الله سبحانه!، هي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون.
رؤية الله سبحانه!، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم.
رؤية الله سبحانه!، اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون.
أمّا من أنكر رؤية الله سبحانه، فهم أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون،... وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال، وشيعة اللعين، وأعداء الرسول وحزبه. «حادي الأرواح» لابن قيم الجوزية (ص 242) بتصرف يسير.
مثل الشمس في رائعة النهار، ومثل البدر ليلة التمام، ومثل نور الصباح يرى المؤمنون ربهم كما تواترت به الأدلة، وتوافرت عليه الشواهد:
فالرؤية ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ودونك جملة من الأدلة المفيدة لرؤية المؤمنين ربهم بالأبصار في يوم لا ينفع فيه صاحب ولا جار!.
قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾ [القيامة : 22و 23].
وقال سبحانه: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
وفسر النبي(الزيادة): بأنها النظر إلى الله عز وجل.
وقال جل وعلا: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين : 15].
أي: الكفار محجوبون عن رؤية الله عز وجل؛ كما فسرها السلف الصالح، وأئمة السنة والجماعة.
وقال النبي : «إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة قال: يقولُ اللَّه تباركَ وتعالى: تريدون شيئًا أزيدُكُمْ. فيقولونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وجوهنا؟ أَلَمْ تُدْخِلنا الجنّة وتنجِّنا من النَّارِ؟ قال : فيكشف الحجاب، فما أُعْطُوا شيئًا أَحَبَّ إليهم مِنْ النَّظَرِ إلى ربهم عزَّ وجل. ثمَّ تلا هذه الْآية ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾» (أخرجه مسلم (297)، من حديث صهيب رضي الله عنه)
وقال النبي : «إنَّكُمْ سترون ربكم عيانًا» (أخرجه البخاري (7435)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه)
وعن جرير قال: خرج علينا رسول اللَّه ليلة البدر فقال: «إنَّكُمْ سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا، لا تُضامُونَ في رؤيته» «أخرجه البخاري (554)، ومسلم (211)»
وعنْ أبي هريرة أن الناس قالوا: «يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة؟»، فقال رسول اللَّه : «هل تُضَارُّونَ في القمر ليلة البدر؟» قالوا: «لا يا رسول اللَّه»، قَالَ : «فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قَالُوا: «لا يا رسول اللَّه»، قَالَ : «فإنَّكُمْ ترونَهُ كذلك!» «أخرجه البخاري (7437)»
وقال رسول اللَّه : «ما منكم من أحد إلَّا سيكلمه ربهُ ليس بينه وبينه تُرجُمَانٌ ولا حجاب يَحْجبهُ» (أخرجه البخاري (7443)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه)
وقد اتفقت كلمات السلف الصالح على دلالة هذه الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة.
- قال التابعي عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله تعالى :﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾: «الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله -عز وجل- لا يصيبهم بعد النظر إليه قتر ولا ذلة» «الرد على الجهمية» للدارمي (ص100) بسند صحيح؛ و«السنة» لعبد الله بن أحمد (ج1 ص244) بسند آخر صحيح.
- قال التابعي قتادة في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾: «وأما الزيادة؛ فالنظر إلى وجه الرحمن» «جامع البيان» للطبري (ج12 ص161)، و«تفسير عبد الرزاق» الصنعاني (ج2 ص294)
- قال مالك بن أنس: «الناس ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة بأعينهم» «الشريعة» للآجري (ج2 ص984)؛ و«شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» للالكائي (ج3 ص501)
- قال محمد بن إدريس الشافعي: «في قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ دلالة على أن أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصار وجوههم» «مناقب الشافعي» للبيهقي
- (ج1 ص420)
- أحمد بن حنبل: بلغه عن رجل أنه قال: «إن الله تعالى لا يرى في الآخرة»، فغضب غضبا شديدًا، ثم قال: «من قال بأن الله تعالى لا يرى في الآخرة فقد كفر، عليه لعنة الله وغضبه، من كان من الناس، أليس الله عز وجل قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾، وقال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾، هذا دليل على أن المؤمنين يرون الله تعالى.» « الشريعة» للآجري (ج2 ص986)
ثم إن أهل البدع والأهواء تمسكوا ببعض ما توهموه مستندًا لنفي الرؤية، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام : 103].
وللسلف في تفسير الآية قولان:
الأول: امتناع رؤية الله عز وجل في الدنيا:
- قال إسماعيل ابن علية في قوله تعالى ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام : 103]: «هذا الدنيا.» «تفسير ابن أبي حاتم الرازي» (ج4 ص1363).
- قال ابن راهويه: «قيل لابن المبارك أن فُلانًا فسَّر الآيتين ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار﴾، وقوله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾ على أنها مخالفة للأخرى فلذلك أرى الوقف في الرؤية».فقال ابن المبارك: «جهل الشيخ معنى الآية التي قال الله ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهوَ يدْرِكُ الْأَبْصَار﴾ ليست بمخالفة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾ لأن هذه في الدنيا وتلك في الآخرة» «مسند إسحاق بن راهويه» (ج3 ص674).
التفسير الثاني للسلف: أن «الإدراك» في الآية بـمعنى الإحاطة!؛ أي: أن الأبصار لا تحيط بالله عز وجل وإن كانت تراه يوم القيامة!.
- قال قتادة في الآية: «وهو أعظم من أن تدركه الأبصار» «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» للطبري (ج9 ص459).
- قال أبو بكر الآجري: «إن قال قائل: فما تأويل قوله عز وجل: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ قيل له: معناها عند أهل العلم: أي: لا تحيط به الأبصار، ولا تحويه عز وجل، وهم يرونه من غير إدراك ولا يشكون في رؤيته، كما يقول الرجل: «رأيت السماء» وهو صادق ، ولم يحط بصره بكل السماء، ولم يدركها» «الشريعة» للآجري (ج2 ص1048).
- قال أبو محمد البغوي: «علم أن الإدراك غير الرؤية، لأن الإدراك؛ هو: الوقوف على كُنهِ الشيء، والإحاطة به، والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك، قال الله تعالى في قصة موسى ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا﴾ [الشعراء : 61 ، 62]، وقال ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه : 77]، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عز وجل يجوز أن يُرى من غير إدراك وإحاطة كما يُعرف في الدنيا ولا يحاط به» «معالم التنزيل» البغوي (ج3 ص174).
أيها الأحبة: إن للظفر بنعيم رؤية الله تعالى أسبابًا من أبرزها:
الإستقامة!، فلا شك أن الاستقامة على شرع الله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتقديم محبته ورضاه على كل شيء، من أعظم المؤهلات للظفر برؤيته، والتلذذ بمناجاته.
وإن من أعظم المصيبات، وأكبر النكبات: أن تُحجب في عرصات القيامة عن رب السماوات، فلا يكرمك ولا ينعم عليك بنظره إليك.. كل مصيبة غير هذه جلل.. ويهون أمامها كل شيء.
فحذار أن تكون من المحرومين من النظر إلى وجه الباري الكريم، وإياك أن تجاور المنكرون لرؤية الله، أو تصاحبهم؛ فمعاشرتهم سم، والقرب منهم هلاك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق