الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

أبو لهب وزوجته


أبو لهب وزوجته


د. راغب السرجانى


بعض من يتدبر القرآن قد يتعجب من نزول سورة كاملة -حتى لو كانت قصيرة- فقط لأجل الردِّ على أبي لهب وزوجته، ويتعجبون أكثر وأكثر من أن هناك تصريحًا باسم الرجل، مع أن الكفار الذين تعدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كُثُر، ومع ذلك أشار لهم القرآن الكريم تلميحًا وليس تصريحًا.

ويزداد العجب أكثر عندما نجد اهتمامًا بأمر زوجة أبي لهب، حيث أفردت السورة لها آيتين من أصل خمس آيات، وسُمِّيت السورة بـ"سورة المسد"، وهو أمر متعلق بزوجة أبي لهب.

وإذا أردت العجب أكثر فاعلم أن تاريخ أبي لهب وزوجته مع المسلمين ليس فيه تعذيب بالسياط، ولا ضرب بالسيوف، ولا إصابات أو جروح، ولا قتل أو اغتيال!!

إذن لماذا هذه اللعنات المنصبَّة على هذا الرجل وامرأته؟!

أختصر لك المسافات.. لقد كان الرجل -وكذلك امرأته- من الإعلاميين الخطرين أصحاب الآراء المضللة! وبالتالي لم يكن أذاهما يقف عند مسلم أو مسلمة، إنما كان يتعدى ليصل إلى كل البشر الذين يستمعون لهما أو يشاهدونهما..

وكم من البشر صُدُّوا عن سبيل الله بكلماتهما! وكم من الآلام شعر بها الدعاة من جرَّاء كذبهما وتدليسهما..!

لهذا كله استحقا هذه اللعنة الشاملة، والتي أصابتهما في الدنيا، وكذلك في الآخرة.

وراجعوا مواقفهما المخزية من أول أيام الدعوة..

روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا. قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1، 2].

لاحظ أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في هذه الرواية: "فجاء أبو لهب وقريش"!

لقد لفت نظره أن الجمع الكبير به أبو لهب، فخصَّه بالذكر، مع أن رءوس القوم كانوا حاضرين، إلاّ أن الشخصية المؤثرة فيهم كانت أبا لهب.. لماذا؟! لأنه هو الذي "تكلَّم"، وهو الذي "أعلن" بأعلى صوته منذرًا الناس، وصادًّا لهم عن سبيل الله..!

فالناس عندهم فطرة طيبة، ولو استمعوا إلى القرآن والسُّنَّة لاهتدى معظمهم، فيأتي هؤلاء الإعلاميون الفاجرون ويُزيِّفون الواقع، ويُخوِّفون الناس، ويُبعدونهم عن طريق الدين، فيصير الإعلاميون بذلك أشد خطرًا على الدعوة من الجلاّدين الذين يمسكون السياط بأيديهم، أو الحكام الذين يزجُّون بالمؤمنين في سجونهم..

ومن هنا ذكر الله عز وجل في حق أبي لهب ما لم يذكره في حق شياطين قريش الآخرين، والذين كان جهدهم منصبًّا على التعذيب الماديِّ للمسلمين.

وزوجة أبي لهب..! إعلامية خطيرة كذلك!

لقد سمعت بأمر الدعوة والرسالة، فكرهت الإسلام وأهله، وحسدت الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولم تكتفِ بدفع ابنها لمفارقة ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم رقية رضي الله عنها، وكان قد خطبها في الجاهلية، إنما انطلقت لممارسة دورها الإعلامي الفاجر، فأطلقت على الرسول صلى الله عليه وسلم اسمًا ساخرًا، فأسمته "مُذَمَّمًا" أي عكس "محمد"، وهو من الذم وليس الحمد..!

وصاغت شعرًا تهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، فقالت: "مُذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا"، وراحت تتحرك بإعلامها المضاد للإسلام هنا وهناك، ولم تستحي أن تغشى مجالس الرجال مخالفة فطرتها التي تدفعها إلى الحياء، فصار شُغلها الشاغل هو صرف الناس عن الإسلام وأهله.

ولم تكن هذه مواقف عابرة في حياتهما..

إنما "احترفا" الإعلام الفاسد..

كانت أم جميل زوجة أبي لهب تتابع الأخبار، وتتحرك في وسط المجتمع لتنقل لهم الجديد من منظورها المضلل، فلما رأت أن الوحي لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، ذهبت إليه متشفية وقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد قلاك! فنزلت (سورة الضحى).

لكن الإعلامية انطلقت تنشر خبر تأخُّر الوحي بصياغتها المضللة الكاذبة، تقول للناس: إن الذي يأتيه شيطان، وإنه لم يعد يلقاه. بينما الحقيقة أن الذي يأتيه ملك، وهو مستمر في لُقياه. فانظر إليها كيف نقلت طرفًا صغيرًا من الخبر -وهو تأخُّر الوحي فترة قصيرة- بصورة مُشوَّهة فاجرة! وكيف أضافت من عندها، وكيف حذفت من الحقيقة، وكيف تحركت ونشطت في الباطل!!

وزوجها أبو لهب على درب الباطل يسير بجدٍّ واجتهاد.. ينافس زوجته في إعلامها الكاذب.. يروي رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ -وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ- فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا»، وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا، وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ لاَ يَسْكُتُ، يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا»، إِلاَّ أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلاً أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.

إنه يمارس نفس الدور الإعلامي الفاجر.. يدَّعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذب، وهو يعلم أنه الصادق الأمين، ويدَّعي أنه صابئ وهو يعلم أنه جاء ليدعو إلى عباده الله الواحد الأحد، وهم الذين يعبدون أصنامًا من دون الله.

إن قصة هذَيْن الإعلاميين مليئة بالأحداث المؤسفة، والتي سقطا بهما -لا أقول من عيون الناس فقط- بل من عين الله عز وجل، حتى أراد لهما هذه المهانة التي سطَّرها في كتابه الكريم، فيظل المؤمنون يرددونها عندما يقرءون سورة المسد إلى يوم الدين.

رسالتان من قصة أبي لهب وزوجته
إن هذه القصة تجعلني أوجِّه رسالتين مهمتين:
أما الرسالة الأولى فهي إلى الإعلاميين.. رجالاً ونساءً، الذين يُزيِّفون الواقع، ويدلسون على الناس، ويبغضون الإسلام، ويُبعدون الناس عن طريق المؤمنين.. أقول لهم في هذه الرسالة:

إن أبا لهب مات بعد أن علم أن المؤمنين قد انتصروا في بدر، فأُصيب بهمٍّ وكمد وحزن، ثم زاد الأمر فأصابه الله عز وجل بقرحة كان العرب يتشاءمون منها اسمها "العَدَسَة"، فمات بها، ولم يستطع أحد من أقربائه أن يقترب منه ليدفنه عدة أيام حتى تعفَّن في بيته. وعندما عيَّر الناس أبناءه بتركه، ألقوا عليه الماء من بعيد، ثم حملوه في ثيابه مسرعين إلى أعلى مكة، فألقوه على جبل، ثم رموه بالحجارة حتى وارَوْه تحتها!

هذه هي النهايات الكئيبة لمن سار في هذا الطريق، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين، وهذه إهانة متوقعة، فالله عز وجل هو الذي قال: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].

فأفيقوا أيها الإعلاميون المدلسون.. فما زالت أمامكم فرصة النجاة، فاغتنموها قبل أن يأتي يوم لا عودة فيه إلى هذه الدنيا.. واعلموا أن الجماهير -الذين يتابعونكم الآن- لن تبكي عليكم أبدًا، بل سيتبرءون منكم، ويتوارثون لعنكم، وسيدركون يومًا أنكم ما حرصتم على مصلحتهم أو مصلحة أوطانهم أبدًا، إنما كان كل اهتمامكم هو تحصيل المال والثروة، وتحقيق الصيت والشهرة.. فماذا كسبتم؟! لقد قال الله عز وجل في حق أبي لهب، الإعلامي الفاجر: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2].. وما هي شهرته؟ إنها شهرة المجرمين والمفسدين والمفضوحين، في زمانه، وإلى يوم الدين.

هل يعجبكم هذا المصير؟!

والله إني لأشفق عليكم.. أفلا تعقلون؟!

وينبغي هنا أن أشير إلى أمر مهم، وهو أنني لا أعني في هذا المقال أنني أصف الإعلاميين في بلادنا بالكفر الذي كان عليه أبو لهب وزوجته.. إنما فقط أصف "الأفعال" التي من أجلها خُصَّ الرجل وامرأته بالتصريح دون غيرهما، وهذا يعني فداحة ما فعلا، وجُرم ما صنعا. كما أن مَن سلك طريقهما فلا يُستغرب أن يلقى مصيرهما، ومَن جعل رزقه في تكذيب الحق والصدِّ عنه، فلا يُستبعد أن يهجر الإيمان كُلِّيَّة في طريق حياته، ومن ثَمَّ وجب التحذير.. قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

وأما الرسالة الثانية فأوجهها إلى المؤمنين: لا يعطلنَّكم هذا الغثاء الذي تسمعونه من أمثال أبي لهب وزوجته.. فأين هما الآن؟ وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

أمَّا هما فقد أهانهما الله عز وجل وأدخلهما نارًا لا خروج منها، وأمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رفع الله تعالى ذكره وأعزَّ أمره، ونصره وأصحابه، وما زلنا نذكرهم بالخير والثناء، وما زال العالم كله يتدبر في آثارهم العظيمة، وأمجادهم الجليلة..

وهل أثَّرت هذه الأكاذيب الباطلة على حركته ونشاطه صلى الله عليه وسلم؟!

أبدًا والله.. إنه أخذ الموضوع ببساطة عجيبة، وعلَّق عليه تعليقًا لا يتخيله أحد! لقد سمعهم يسخرون منه، ويلقبونه بالمذمم، فماذا قال؟! لقد قال لأصحابه: «أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟! يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ».. وأكمل طريقه صلى الله عليه وسلم، وشجَّع أصحابه على إكمال الطريق، فلا وقت عند الدعاة الصادقين لهذه التُّرَّهات والأباطيل.

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن ردَّ الفعل هذا كان في زمان مكة حيث لم يكن في يده صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، أما في زمان المدينة فهذا حديث آخر له تفصيلاته.

فأبشروا واطمئنوا أيها المؤمنون..

فوالله، ليثلجنَّ الله صدوركم بعزِّ هذا الدين، وليشفينَّ صدوركم برؤية الخزي يعلو هؤلاء المجرمين.. وليأتينَّ يوم -أحسبه قريبًا إن شاء الله- يتصاغر فيه هؤلاء المدلسون، ويتوارون عن أعين الناس، بعد أن كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها، فهذه نهايات حتميَّة لمن قضى عمره يُبعِد الناس عن طريق ربِّ العالمين..

{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51].

ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين
 

المصدر: موقع قصة الإسلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق