الاثنين، 6 يوليو 2015

حسابات رمضانية

حسابات رمضانية

يعود رمضان، ويعود معه مَوْسمُ الخيرات والبركات والنفحات، واللبيب مَن يغتنم في مَوَاسِم تنزُّلِ الرحمات قبل حلول الأجل وانصرام العمر وتفلُّت الأوقات.

وها هي ذي أبواب الجنان تُفتَّحُ في رمضان، وتُغلَّقُ فيه أبواب النيران، وها هو ذا المنادي يُنادي: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشر أقصِرْ، وهاهم عتقاءُ الله في كل ليلة في موكب بهيج، فيا سعادة مَن تَحرَّر من رِبْقةِ الإباق، وأعدَّ ليوم التلاق، وملأ الميزان بالأعمال، وخفف عن كاهله الأثقال، أخذ من صالح الأعمال من كلِّ فن بطرف، وسابق إلى الصالحات ومنها نال وغرف، له في كل صنف حساب وعنوان، فهو دائب السير في كل وقت وآن.

قدوته أبو بكر رضي الله عنه صِدِّيق هذه الأمة الذي جمع أكملَ الخصال وأشرفها، ونال بمجموعها أعلى الجنان وأرفعها، سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم صحابتَه ذات يوم: "مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟"، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، ثم سألهم فقال: "فمن أطعَمَ منكم اليوم مسكينًا؟"، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟"، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمَعْنَ في امرئ إلا دخل الجنة" [1]!

حسابات رمضانية
من هنا جاءت فكرة التذكير بهذه الحسابات والعناوين الربَّانيَّة التي يَغفُلُ عنها الناس، بينما تراهم يُولُون اهتمامات كبرى للحسابات والعناوين الدنيوية.

وإذا كان أيُّ خطأ في الحسابات والعناوين الدنيوية له ثمنُه الغالي؛ بحيث قد تضيع أموال المرء إذا نسِيَ رقمًا، أو أخطأ فيه، أو قد تضيع منه أوراق ثمينة، أو رسائل قيِّمة إذا حرَّف العنوان، أو صحَّف، أو غيَّر أيَّ شيء فيه، فإن الحاجة مُلحِّة إلى ضبط العناوين والحسابات الأخروية؛ فإخلاص النية، وتوحيد الهدف، والوِجْهة، من الأهمية بمكان؛ فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، خالصًا لوجهه، وعلى منهاج وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم؛
قال تعالى:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
[الكهف: 110]،
ويقول سبحانه:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
[الأنعام: 162، 163].

فإلى بعض هذه الحسابات الربانية الرمضانية المستقاة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:
1- حساب شرفي
كثيرًا ما نسمع بأن فلانًا هو الرئيس الشرفي للنادي الفلاني، أو الجمعية الفلانية، وكثيرًا ما يتسابَقُ الناس إلى نيل المناصب الرفيعة، والمقامات المنيفة، ومصاهرة أُولِي الحسب والنسب الشريف، وهو أمر لا يعارضُه الشرع، إلا أن اعتبار ذلك هو أسمى الغايات، وأنبل الأهداف، مع فقر مدقع في الجانب الأخروي، هو ما يجبُ التنبيه عليه.

وقد قرَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن شرف المسلم الحقيقي: هو قيام الليل؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئتَ فإنك ميت، وأحبِبْ مَن شئتَ فإنك مفارقُه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس" [2].

ورمضانُ هو فرصة المسلم ليأخذ نصيبه من هذا الشرف الأسمى، والجوُّ مناسب، والظَّرْفُ مَوَاتٍ، وبيوت الله مفتوحة آناءَ الليل وأطراف النهار، والقلوب مهيَّأة ومقبلة على الله صغيرها والكبير، فهل من مستجيب؟ يقول صلى الله عليه وسلم: "مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه" [3].

2- حساب بنكي
يَدَّخِرُه الله عز وجل لعبده، ويربيه له كما يربِّي أحدنا فلوَّه؛
يقول سبحانه وتعالى:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}
[البقرة: 245]،
ويقول أيضًا:
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
[البقرة: 261]،
 فهل تكون ثقتُنا في موعود الله عز وجل أشدَّ من ثقتنا في حساباتنا البنكية وأموالنا المدخرة؟

لقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة فيُدارسهُ القرآن، ف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما [4]. وإن من الجود في رمضان تفطيرَ الصائم، وفي فضله ورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائم شيءٌ" [5].

3- حساب إلكتروني
ويشمل صلةَ الأرحام، فليست الحسابات الإلكترونية موضوعة للقيل والقال، بل على المرء استغلالُها للتَّزاورِ في الله، وصلة أحبابه وأقربائه، خصوصًا بعد أن أصبح الإنترنت مدمجًا في الهواتف، فمن بَعُدَت به الشقَّة تواصل مع عائلته وأصهاره وإخوانه في الله وفي الرحم بوسائل العصر التي مهَّدت السبيل، ولله الحمد.

4- حساب بريدي
للتعارف بين الأمم والشعوب، وتبليغ رسالة الله للمسلمين والعالمين؛
 قال تعالى: 
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]،
 وفي الحديث الشريف: "لأَنْ يَهديَ الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَم" [6].

ولا شكَّ أن التعارف والتَّآلف والإخاء والسلام والرحمة هي رسالة الإسلام الأسمى، وليس الدماء والأشلاء، كما يريد البعض أن يصوِّر، فلا يفرحُ إلا وقد ملأ الأرض دماء، بدل أن يملأها ورودًا، وقد نسي أن تحية المسلمين السلام، والله هو السلام نسأل الله أن يملأ الأرض سلامًا ومحبة ورحمة.

5- حساب غيبي
يشمل الدعاءَ للوالدين والأقربين وللمؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أحياء وأمواتًا؛ 
يقول الله عز وجل:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[الحشر: 10] 
هذه صفات المؤمنين والصالحين، يعرفون الفضل لأهل الفضل، وليس كشأن بعض الطوائف الذين يسبُّون سَلَفَهم، ويَتَّخذون ذلك ديدنَهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا ساء ما يفعلون.

6- حساب جسدي
يشملُ الصيامَ الذي اعتبره العلماء زكاةَ الجسد، وهو من ضمن الخصال التي أدخلت سيدَنا أبا بكر رضي الله عنه الجنةَ؛ كما في الحديث السابق، وفي فضله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه" [7]، كما يشمل الحجَّ والعمرة، وسائرَ العبادات الجسدية.

7- حساب قرآني
ويتعلَّقُ بكتاب الله عز وجل، تلاوةً وحفظًا ومُدارسةً، وفي قول ابن عباس رضي الله عنهما السابق: "حين يُدارسه القرآن" وذلك في رمضان.

8- حساب لساني
ويشمل الذِّكرَ بشتَّى أصنافه وأنواعه في سائر الأوقات، وفضله في القرآن والسنة أشهر من نارٍ على علم.

9- حساب رقمي
يشمل حضورَ مجالس العلم في المساجد، وما أكثرَها في شهر الغفران، ففي هذا الشهر الفضيل تجد بيوت الله كخلايا النحل، تعجُّ بالمصلين والذاكرين، وطالبي العلم في هذا الشهر، يُلبِّي المسلمون
 نداء المولى الكريم:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
[الكهف: 28]، 
كيف لا وشهر الصيام هو شهر الصبر؟!

10- حساب مفتوح
يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" [8].

فاجعل أخي المسلم حسابك مفتوحًا لا ينقطع عنك منه المدد الإلهي، والفضل الرباني بالعناية بهذه الخصال الثلاث: الصدقة الجارية، والعلم النافع، والأبناء الصالحين.

هذه حسابات لمن أراد أن يكون له مجموع من الخير والفضل يكون سببًا بفضل الله لدخول الجنة، وكل مسلم يختار منها بعد الفرائض ما يجد فيه نفسه؛ فالطيور على أشكالها تقع، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث أبي بكر رضي الله عنه: "فمَن كان من أهل الصلاة ..".

وكذلك أهل الجهاد وأهل الصدقة وأهل الصيام، وهو دليل على أن المسلم يغلب عليه عمل يكون متميِّزًا به؛ حتى يكون سببًا في دخوله الجنة بإذن الله؛ فانظر أخي من العمل ما تجد فيه نفسَك، وسارع إلى الخيرات، وسابق في هذا الشهر الكريم لعلَّك تُدعَى من أبواب الجنة الثمانية، ففضل الله واسع، وعطاء الله غير محظور، فدونَك المهر لِتنال العروس، ودونك الثمن لتنال المثمَّن.

ونختم بهذه اللطيفة التي تفطَّن لها الإمام مالك رحمه الله، فقد رأى غنيًّا يشتغل بنوافل الصلاة عن البذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل، فأخبره أنه يسعى في غير الميدان الذي خلق له، فاشتغاله بنوافل الأعمال دون الصدقة والبذل في وجوه الخير من بناءٍ للمساجد، وأوقاف الخير: من معاهدَ، ومدارسَ، ومستشفيات، وغيرها - هو من سبيل الاشتغال بالنافلة عن الواجب في حقِّه.
_______________________
[1] أخرجه الإمام مسلم.
[2] أخرجه الحاكم، والبيهقي، وحسَّنه الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (831).
[3] أخرجه البخاري ومسلم.
[4] أخرجه البخاري ومسلم.
[5] أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وهو في "صحيح الترغيب"(1072).
[6] أخرجه البخاري ومسلم.
[7] أخرجه البخاري ومسلم.
[8] أخرجه البخاري ومسلم.

منقول من موقع قصة الإسلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق